المرأة الدرزية وفاعليَّة حضورِها النضالية / بقلم د. منى رسلان

لَئنْ كُنَّا نَلْتقي اليَوْمَ، حَوْلَ كِتابِ “المرأةُ الدُّرزيَّةُ في البُنية المُجتمعيَّةِ اللبنانيَّةِ” وهي رسالة الماجستير في العلوم الاجتماعية، للباحثة في المجال الأكاديمي السيدة سامية خُضر؛ فَنَحْنُ نَلْتقي، إذاً، في جذور تأصيل وجود طائفة الموحِّدين الدروز، أَساس التكوين المجتمعي والانساني والسياسي والتاريخي والوجودي للبنان.

كيف لا، وهذا الوجود يُرسِّخهُ كتاب “المرأة الدرزية” لـ سامية خضر أنثوياً فِعل إرادة، بمفاعيلتهِ الانسانيَّة والنضاليَّةِ والوطنيَّة والمجتمعيَّةِ والاسلاميَّة التوحيديَّة والقوميَّة في مواجهة القِوى الظلاميَّة والاستعمار الغربي بأشكاله كافة.

فهذا الوجود الأنثوي لدى طائفة المُوحِّدين الدروز إتَّخذ مناحٍ مُتشعِّبة ومِفصليَّة في حياة المرأة الدرزية وفاعليَّة حضورِها على الساحة الاجتماعية – السياسية والنضاليَّة، بكُلِّ ما يعتمل هذا الوجود مِن مَعْمُودِيَّة وَطَنيِّة واجتماعيَّة ودينيَّة.

لذا، يجد المثقف نفسه مدعوّاً من خلال مسؤوليته الاجتماعيَّةِ – التنويريَّةِ إلى أن ينخرط في ما يُشبِهُ “الصراع” المنطقي أحياناً واللا واعي أحياناً أُخر، ليتَّخذُ صفة “الشراسة” من أجل مجتمعه وتأزُّماته بهدف ترسيخ قيم الحرية (والانسانية) والديموقراطية.

فـ “الحياة عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع، ولولا ذلك لما كان هناك شيء اسمه حضارة أو مجتمع” .

إذن يأخذ موضوع “الارادة” حيِّزاً لا بأس في رحاب الأشغولات الفكريَّة والمنطقيَّة لدى الفلاسفة والعلماء. فهل تُعتبر الارادة فِعلاً عقلياً وهي بذا ترتبط بالعوامل النفسيَّة الأخرى المُصاحبة لها؟ أم أنها تُشكِّل (عبر فاعليَّة طبيعتها) الضابطةَ العقليَّة والاجتماعيَّة قامعة للميول والشهوات، رغبة في تحقيقِ الطموحات الأسمى بصفاتها المثالية.

بناءً عليه، اهتمَّ فلاسفة اليونان قديماً بالارادة؛ فـ برأي سقراط الارادة هي الخير، هي الحرية التي تمرُّ عبر المعرفة؛ وعليه لا تتحقَّقُ إلاَّ باكتمال المعرفة، التي تقوم بعمليَّةِ تطهيرٍ، يصبِحُ بواسطتها الانسان مالِكاً لإرادته، يلتزمُ فِعل الخير، الخير فقط .

وشغلت مسألة الارادة فلاسفة العصر الحديث أيضاً من رينيه ديكارت René Descartes إلى آرثر شوبنهور Arthur Schopenhauer ونيكولا مالبرانش Nicolas Malebranche وباروخ سبينوزا Spinoza Baruch وهنري برغسون Bergson Henri، فالماركسية.

إذ يرى ديكارت أنَّ الارادة الحرة، كالطاقة العمليَّة التي لا تخضعُ لأي حتميَّة أو ضغوط خارجيَة. فهي قدرة لا متناهية على الاثبات والنفي.

ويعرِّف شوبنهور الارادة بأنَّها جوهر الانسان وجوهر العالم، هي أساس الأشياء لا الفكر ولا العقل؛ يقول: “الارادة نفسها ظاهرة من الظواهر لا تُدركُ إدراكاً مباشراً كما يدَّعي كانت _(كانت يقول، إنها العقل العملي، والملكة التي تُميِّز الانسان عن عالم الظواهر. رابطاً بين الواجب والارادة)_ فلا يمكن بحال أن تكونَ شيئاً بالذات مُستقلاً عن تصوُّر الفهم” .

بيد أنَّ الارادة هي “محبَّة الخير على العموم” و”هي الأثر المتصل الصادر عن صانِع الطبيعةِ والمُوجِّهِ للنفسِ نحو الخير على العموم” ، وِفاقاً لتعريف مالبرانش.

في حين ميَّز سبينوزا بين الروح والشهوة، فيرى أنَّ الارادة تختصُّ بها الرُّوحُ وحدها، في حين الشهوة يختصُّ بها الجسد والروح معاً.
أمَّا برغسون، فالارادة الحرة لديه، فِعل أخلاقٍ، وحياة الانسان لا تخضع لأيِّ حتميَّة، بل هي تقوم في تيار حيوي مستمر، لا يتجزَّأ. والحالات النفسيَّة، بما تشتمل عليه من رغبات وانفعالات وقرارات، في تغيُّرٍ مُستمر. يقول: “فإذا توقَّفَ تغيُّرها فإنَّ ديمومتها ستتوقَّفُ كذلك” .

واستعرضت الماركسيَّة الارادة من الناحية السياسية. فالطبقة العاملةُ أحوج ما تكون إليها. وتالياً تحتاجُ هذه الارادة السياسة إلى حزب يقودهُ ثوَّارٌ، يعمل على تحويل عفويَّةِ العُمَّالِ إلى إرادةٍ ثوريَّةٍ قويَّةٍ و واعية.

من هُنا، بعد تبيان أهمية الارداة، كان لا بُدَّ لنا من تناول مسألة العادات الانسانية المُتنوِّعة ومفاهيمها، في تفعيل سيرورة الحياة الانسانية – المجتمعيَّة.

لقد أثبتت دراساتُ علم النفس الحديث أنَّ العادات الانسانيَّة مُتنوِّعة: عادات نشيطة، وعادات سلبية.

ويتكوَّنُ نشاطُ الانسان من أعمالٍ مألوفة أو حتَّى آلية أو من أعمال غير مألوفة، يكتفي الذهنُ بإثارة تعاقُبِها ومراقبتها. وهذه ما تحتاجُ للتفكير لاتخاذ قرار بشأنها.

بيد أنَّ العادات لا تقتصر على تلك الجسديَّة فقط، لتتعدَّاها إلى الحالات النظريَّة والمعنويَّة، فالمُكتسبة إراديّأً وغير إراديَّة. ومما لا شكَّ فيه أنَّ الارادة _ وفقاً لعُلماء الاجتماع والفلاسفة على تباين آرائهم وتعدُّد نظرياتهم حول العادة والارادة _ ليست قويَّةً إلاَّ بفضل العادات التي بعملها يُنفَّذُ الانسان ما أراده.

والعادات منها ما هو فكريٌّ (مهارات فكرية تكتسب بالمران)؛ منها ما هو نفسانيٌّ (تحتاج إلى جُهدٍ وإرادة)؛ منها ما هو أخلاقي (عادات حسنة وسيئة)؛ ومنها ما هو اجتماعيٌّ (التي تُسمَّى “الواجبات الاجتماعيَّة” و”الواجبات العائليَّة”)، وهي “الأنا الأعلى” بحسب تصنيف فرويد لها، إذ تلعبُ دوراً ضاغطاً على أفراد المجتمع.

ويطلعنا “كتاب المرأة الدرزية في البنية المجتمعية اللبنانية” على حركيَّة تطويع العادات المُجتمعيَّة وتقويم إرادة الانسان المُتمثِّل بالمرأة هنا، وليتسرَّب من الذهن سؤالٌ: كيف استطاعت النساء وقتذاك من اختراق أعراف دينيَّة واجتماعية وأُسريَّة ليمتطينَّ صهوة الزعامة السياسيَّة الدرزية؟

فمن خلال تتبُّعِ مسار الحَراك النسوي الدرزي سياسياً وزعاماتياً، تتوضع الرؤيا ههنا؛ فالمرأة الدُرزية زاولت مهنة اجتماعيَّة تاريخيَّة وسياسيَّة، على مرِّ التاريخ السياسي اللبناني. فـ مهنة السياسة والزعامة الدرزية كانت ولا تزال حِكراً على الرجال في لبنان.

وتتجلَّى هذه الارادة في (التَقَدُّمِيَّةِ) لنساء “خالفنا العُرف الاجتماعي” في التخالط والتحدُّث والمواجهة واتِّخاذ القرار والحل والربط، خرجن على الأُطر الاجتماعيَّة التقليديَّة التي انتهجها المجتمع الذكوري آنذاك، ليتبوأن مراكز قيادية على مستوى طائفة المُوحِّدين الدروز، نذكر منهن: الست نسب التنوخيَّة، الست نايفة جنبلاط شمس، الست نظيرة زين الدين والست نظيرة جنبلاط، وغيرهن الكثيرات.

أُحدِّثكم في هذا المفصل من مداخلتي، عن أربع نساء مقدامات، ثابتات في انتمائهنَّ العائلي والوطني، ذوات مشروع سياسي – اجتماعي، حملن إرث الزعامة الدرزية في أزمنة تاريخية وسياسية متأزمة وعنيفة.

يمكن للباحث / القارئ والسامع، ومن خلال رصده لسيرة حياة النساء الدرزيات، أن يتلمَّس حجم التبدُّلات التي نتأت فوق جسد مجتمع التوحيد على امتداد رقعة تواجده الجغرافي – الاجتماعي، وبين ظهرانيَّة أبنائه.

فالمجتمع الدرزي تاريخياً، اختبر شقاء الانسان، عايش الخوف والكبت والحرمان، وقيل عنه أنَّه مجتمعٌ لا يملك قابليةً على التطور.
فمن خلال تتبُّع التغيرات التي حلَّت بالمفاهيم الاجتماعيَّة ككل، فـ: “المرأة شرٌّ كلُّها، وما فيها أنَّهُ لا بدَّ منها” .

فهذا القول (مثلاً) ينطلق من الخلفيات الاجتماعية التي طبعت المجتمع اللبناني في تلك المراحل التاريخيَّة وفي بعضٍ من مفاصله وليس جميعها؛ “وليتَّكئ المُجتمع على جملةِ المفاهيم المجتمعية المتعلقة بالمرأة، والتي لم تكتفِ بوضعها في خانة النفي والاهمال..” . حالتان من حالات الاختزال السالبة، التي تخضع لها المجتمعات النامية والمتخلفة، بيد أنَّ تلك النساء اللواتي سوف أتحدَّث عنهن، كانت خيرُ عونٍ للرجل لا سيما في ترسيخ وجوده وتجذره كلٍّ من الرجل والمرأة في المجتمع الدرزي تاريخياً، في الأرض.

رأة عكَّازه،

فإحدى الاختزالات الايجابية التي كان الرجل يجد فيها نفسه مطمئناً غير قلق من الآم ومصاعب وتهديدات الحياة، يكمن في هذا الوجود الايجابي للمرأة، على اعتبارها “عكَّاز الشيخوخة”؛ أي أنَّ وجود المرأة في حياة الرجل مرتهنٌ فقط بمفهوم سلبي لهذه الحاجة.

“السلطانة” أو “الست الكبيرة”أو “سيدة زمانها”: الأميرة نسب التنوخيَّة وأنا أُطلق عليها مسمى: سيدة المفاوضات لم تكن ولادة الأميرة نسب التنوخيَّة (والدة الأمير فخر الدين الثاني) في العام (952-1042هـ؛ 1546-1633 م) في عبيه، لتُماثل صيرورة المجتمع.

فقد لقَّبها المؤرِّخون الأجانب بالسلطانة، لنشأتها في بيت زعامة وعز، على تربية عالية وخُلق كريم، حكيمة راجحة العقل، امتازت بصفة “الشجاعة”.

حكمت مع زوجها الأمير قرقماز المعني، أمدَّتهُ بآرائها الصائبة في كثير من شؤون العامة، وعندما توفي زوجها في العام 1585، كان ولداها فخر الدين ويونس صغيرين، وخشيةً منها من بطش وفتك الوزير العثماني إبراهيم باشا آنذاك، خبأتهما في مخبأ أمين بمعرفة أحد رجالها الثقاتِ.

فسيدة زمانها، كما يلقبونها، رغم مصابها الأليم، وخوفها على ابنيها، والعظيمة بقوة إرادتها، حملت وزر مسؤولية إدارة شؤون بلادها والمُقاطعات التي حكمتها؛ فأوعزت إلى أخيها الأمير سيف الدين التنوخي بأن يضمن بلاد الشوف من الدولة العلية، فيسلِّمها إلى ابنها البكر الأمير فخر الدين عندما يبلغ أشدَّهُ.

لم يُخالف الأمير فخر الدين لوالدته الأميرة نسب، أي أمر، وكان يستشيرها في شؤونه كافة.

هي الأم، والمُرشدة الأمينة لفخر الدين، الراعية الصالحة الغيورة عليه وعلى شؤون الحكم والعِباد؛ أحبَّها فخر الدين حباً جماً وأعزَّ قدرها، فكانت الينبوع الروحي الذي يستمدُ فخر الدين نور إمارته المتألق.

عرفت “سيدة التفاوض”، قوام المفاوضات الحكيمة، كيف لا وهي التي استلمت قيادة إمارة بمسؤولية تاريخية وإدارية واقتصادية واجتماعية وأمومة حكيمة.

  • القيت في ندوة حوارية حول كتاب “المرأة الدرزية في البنية المجتمعية اللبنانية”  في ثانوية العرفان.