من يتذكّره أو سمع عنه؟ منجّم مغربي…/ خالد بركات

كان العيد، بالنسبة إلى أهل القرية، يُعلنُ قدومه تلويحُ الكوفية البيضاء، عند مطلّ الضيعة، ووقعُ حوافر حصانه (بغله) على الطريق.
وصل المغربيّ، تصرخُ إحدى الجارات للقرايب، وينتشر الخبر في القرية مثل بقعة زيت فوق ورقة. ينتشر مع الريح، وهيصة الأولاد في الأزقة.
وبينما كانت إطلالةُ وجه غريب على حي أو زاروب تقلق الأمهات فيندفع الأولاد وخصوصاً البنات منهم إلى التآوي في المنازل،
فقد كان تصرّفُهن يتحولُ إلى عكس ذلك، حين يصلُ الطبيبُ المغربي، فيخرجن من البيوت، وينتشرن فوق المصاطب والشرفات، متجاهلات حُسْن المظهر.
فمن كانت يداها في {لكن} الغسيل تمسحُهُما بمريولها أو فستانها ولا تُبالي… ومن كانت تعجن، تقفزُ تاركة العجنة تنتظر عودتها.
وكم من طبخة احترقتْ فوق نار منسية.
والمغربي يصلُ. يُعْلنُ ذلك صوتُه الهادرُ بين الأزقة.
دوا للعين، دوا للراس، دوا للربو، دوا للمعدة، دوا للربو دوا للغبي. عباراته مشجعة، منغّمة، وصوتُه رصينٌ هادئٌ، وأسلوبُهُ يخصّه وحده ويعجزُ أيّ هادئ، ويعجز أيٌّ كان عن تقليده.
ما كنت لتفوّت تلك الفرص النادرة، فيهرع أولاد الحيّ مع النساء، ليتحلّقوا حوله، وتشرئب أعناقهم في تحميل قاماتهم الصغيرة على رؤوس الأقدام، ليكتشفوا الأسرار المختبئة في أكياس يحشو بها الخُرْج المستريح فوق بغله. ومجملها من الأعشاب التي يجمعها من حقول القرية، بما له من خبرة ومهارة. يجمعها، ويجففها ثم يصنفها أدوية شفاء الأمراض.
وكان الرجل ينقل إلى أجواء الأهالي غير الحشائش الجافة، الوعود بالشفاء.
كان يحمل ذلك الغموض الذي يرافق الغرباء المجهولين، ويجعل الإنسان المقيم في عزلة القرى النائية، يُحس بالنشوة وبما يشبه السعادة الحقيقية.
وهو أبداً لا يترجّل، يبقى فوق ظهر مطيته، بعدما ينتحي ركناً آمناً من الطريق أو الساحة.
وتتجمع حوله النسوة، ينقلن إليه الشكاوى، فيصغي إليهن، بدقة واهتمام.
يصغي، ثم يمد يده إلى الخرج، ويتناول حفنة من الحشائش المدقوقة، والتي هو وحده يدرك أسرارها،، ثم يوزعها دون أن ينسى تلقّي ثمنها.
والدفع يتم بسخاء، ودون جدل أو نقاش. فأسعار المغربيّ لا تحمل ختم الصيدلي، فالتعديل إذاً لا يصيبها.
وأسأل من هذا البعد الزمني، عما إذا كان لتلك الأدوية أثرٌ إيجابي فعّال يشفي المرض؟ وعمّا إذا كان الرجل هذا يملك القدرة على الشفاء الحقيقي؟ ولا أنتظر جواباً، أتذكرُ أنه كان للناس إيمانٌ مطلقٌ من أي وجود للطبابة العلمية، والمرض ينمو في كل العصور، ويغزو الإنسان المسافر من جيل إلى جيل، تماماً مثلما كان يغزو جدهُ الأوّل في الكهوف الحجرية. إن الطبيب المغربي لم يكن يداوي بالأعشاب الغريبة وحسب، بل كان يغتنمُ فرصة دخوله الحميميات في حياة القرويين، فيظهر مقدرة أخرى كامنة فيه.
وفيما أذناه تُصغيان إلى صاحبة الشكوى، تظلُ عيناه تتفرّسان في الوجه.
وتكتفي المرأة ومَنْ حولها بهذا القدر من الرجْم بالغيب، قبل أن ينتقل إلى وصفة وإلى زبونة جديدة.
هذه العشبة انخليها، وامزجيها مع ملعقة عسل.
هذا دواءٌ لا يضرّ اعطيه لزوجك…وطبعاً زوجها الغائب في حقله.
ولم يكن المغربي يهمل وجود الصغار، شأن سواه من زوار القرية، بل كان يراقب الصغار والكبار، ولا يفوته أحد فيتوقف عند أمّ تمسك بولدها، ويقول: طالعه سعد، انتبهي له.
وقد تحطٌ نظرته على فتىً آخر، جالس فوق أسوار الحديقة، فيُشيرُ إليه: ابن مَنْ يكون؟ إسم الله على هذه الخلقة، أتوسّم في طلّته الخير…!!
وتهرع أمُ الولد المختار، فتحتضنُهُ، وتمطرُه بوابل من القبل، بينما الوجوهُ الباقية تستقي المزيد من قطرات الوحي المنعش.
مَن يدري؟
وتختنق الكلماتُ في أعماق الحنجرة، يدور الحديث في العائلة، فيهزّ الأبُ رأسه وقد تحركتْ في صدره الشكوك ويقول: أتصدّقون كلام المغربي؟ المثل ما قال شيئاً كذباً؛ “كذب المنجّمون ولو صدقوا”.
واحدهم يتمتم للدفاع عن المنجّم، إنّما بهدوء بكل تأكيد:
} لكن أعشابه تشفي أمراضنا{.
ونحن اليوم في بلد العجائب والغرائب نحتاج إلى منجّم مغربي يطرق أبوابنا ويصف لنا جميعنا مواطناً ومسؤولاً و….!! أدوية لأننا أصبحنا أو بتنا مرضى بكل أنواع الأمراض وأولها المرض الهذياني النفسي.
نعم، فمع بعض الجهل فينا وبالرغم من دخولنا الألفية الثالثة، بتنا بحاجة إلى منجم يغربل شيئاً من جهلنا كما هو بجهلنا بالأعشاب، لعل الجهل على الجهل يوقظ حواس الفكر ويفك بالألم مضامين الحيرة فينا ولأجلنا جميعاً.
أو لربما بحدسه يعرفنا إلى بعض التفاصيل المختبئة في الزوايا، ولو قليلاً وإلى أين نحن ذاهبون، بعد الأمراض الصحية والنفسية، والتهكمية والتحكمية واللامبالاة والاستفزاز والأزمات تلو الأزمات والعسرات وفقدان الثقة وتفشي الحوارات بأسلوب لم نعرفه أو نعهده يوماً، وتفكك عائلة ومجتمع ووطن وأمة ونزاعات وجدليات غير منطقية وتعنت طائفي لا علماني وعقائدي لا إيماني…وعرض مشاكل دون حلول إلخ…
اليوم أتساءل وأتمنى: أن ينظر إلى عيون من بيدهم زمام الأمور، ويخبرنا عما يجول في عمق نظراتهم ويخبرنا عن نظرتهم أوالرؤية المستقبلية عندهم…!! أو النبوءة للوطن الحبيب الذي يعاني ويصرخ، ويقول اسمعوني واسمعوا ما هو مرضي ووجعي وداووها بالتي كانت هي الداءُ…
ولتكن المصداقية والوطنية هي واسطة شفاء حقيقي؟…
أم تبقى تلك الكلمات وتلك النبوءات، أمنيات وأمنيات؟.. يا رب تتحقق… آمين.