الحقيقة التي تعلّم وليد جنبلاط التسوية

منير الربيع (المدن)

لوليد جنبلاط عبارتان لا يخرج في السياسة والتفكير عن معناهما. عبارتان قالهما كمال جنبلاط في أحلك ظروف لبنان. تصلحان لكل زمان ومكان، بالنسبة إلى وريث الدار والدور: “الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم”. وهي العبارة الأكثر شهرة وترداداً على لسان وليد. الثانية هي: “علّمتني الحقيقة أن أرى جمال التسوية”. هذه الأخيرة، وإن كان جنبلاط لا يرددها على الملأ وفي المجالس، إلا أنها أساس في مسيرته السياسية، ومساره التاريخي. المقصود بـ”الحقيقة” في العبارة الثانية هو الواقعية، و”التسوية” هي عبارة عن اتفاق سياسي يحفظ ماء وجه الجميع على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وهي تختلف كل الاختلاف عن المعنى المشبوه لـ”الصفقة”.

للعبارة الأولى معان بالنسبة إلى جنبلاط، يردّ فيها على كل منتقديه. هو صاحب فنّ الانتظار، ليس “الانتظار على ضفّة النهر” وحسب، إنما الانتباه للحظة تغيّر مآلات السياسة واستثمار فرصها لتعزيز الوضع الداخلي. بمعنى آخر، العبارة الأولى تبقى دوماً هي الردّ على كل ما يُتهم به الدروز أو زعامتهم، كما للرد على محاولات استغلال حساسيات درزية داخلية، والتي تستند إما إلى سوء فهم (ونية) وتقدير، وإما للمزايدة على جنبلاط وحزبه. فيردّ جنبلاط على كل الاتهامات التي توجه إليه بأنه يفرّط بحقوق الدروز، أو يغيّر مواقفه السياسية، تبعاً للمتغيرات الإقليمية، بأن “الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم”. وهنا، يكون التنازل أو الذهاب إلى التسوية، مرتبطاً بالحفاظ على الحقيقة وجمال التسوية، بل صون الذات أيضاً وعدم الذوبان، والحفاظ على الدور، والقدرة على التأثير والتقرير.

يسبق جنبلاط الآخرين إلى التسويات. يعرف ضرب المواقيت، التي يرى فيها البعض تنازلاً مبكراً، لكن الجميع يعود إليها فيما بعد. مع ذلك، حتّى في لحظة إبرام التسوية، نراه بغتة يقف على خطّ الاعتراض، لتحسين بعض الشروط. مداولات “اتفاق الدوحة” (2008) مثال ساطع، كما غيرها من المحطات. يشهر جنبلاط اعتراضه في لحظة استشعاره أن الجميع ينزلقون في مسار تسووي يصل إلى حدّ الاستسلام. وهذا أكثر ما يتجلى لدى مناقشة قوانين الانتخاب منذ العام 2000 إلى العام 2017. وأبرزها محطة مناقشة قانون انتخاب 2009 حين ذهب البعض باتجاه تقسيم بيروت وتفتيت قوة تيار المستقبل. هذا التفتيت عاد المستقبل وسار به في القانون الانتخابي الأخير، ووصل إلى النتيجة التي كان يعرفها جنبلاط منذ العام 2009.

يوم أبرمت التسوية الرئاسية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، سارع كثر إلى وصفها بأنها “صفقة”. صفقة عودة الحريري إلى الحكم، مقابل بلوغ ميشال عون قصر بعبدا. سار جنبلاط بما يعتبره “تسوية”، فاصطدم بما تحويه من تفاهمات غير معروفة. وذات مرّة أعلن عبر “المدن” أن ما خفي من الاتفاق الرئاسي قد يكون أعظم، وهناك أمور يجهلها كثر حيال هذه التسوية، تطال كل الجوانب وليس السياسية فقط.

اليوم، وفي معمعة مداولات تشكيل الحكومة، يحمّلُ كل من تيارُ المستقبل والقواتُ اللبنانية وليدَ جنبلاط مسؤولية التراجع أو الضعف في موقفيهما بالمفاوضات. ويعتبران أن تنازله وذهابه إلى قصر بعبدا وتسليم أسماء الدروز المقترحين للتوزير إلى عون، فيه تجاوز للمستقبل، وحشر الجميع في الزاوية. ويتخذ البعض من هذه الإشكالية فرصة للتصويب على جنبلاط واعتباره إنهزامياً، يلجأ سريعاً إلى التنازل. ولكن بلا شك أن ثمة نظرة مجحفة في ذلك، خصوصاً إن بحثنا في دوافع جنبلاط وأسبابه نحو تقديم هكذا “تنازل”.

على ما يبدو، المشكلة تعود إلى مرحلة الانتخابات النيابية، والعقبات والشروط التي كان يضعها سعد الحريري أمام طريق التحالف مع الحزب التقدمي الاشتراكي، ودخوله في تحالفات متناقضة بين دائرة وأخرى، ما أدى إلى تشتيت جمهوره وجمهور حلفائه. وتكررت المشكلة في مفاوضات تشكيل الحكومة، إذ يعتبر جنبلاط أنه بقي مغيّباً تماماً عن مداولات التفاوض، ولم يتم تقديم أي عرض له، لا بخصوص الحقائب ولا بخصوص الحصة. وجد نفسه وحيداً، حين كان الحريري على تنسيق تام مع القوات، ومع التيار الوطني الحر. وفي لحظة استشعر أن القوات ستحصل على ما تريد، فيما هو بقي غائباً، وسط عدم وضوح من قبل الحريري تجاهه. حينها، كان لا بد من خيار الذهاب إلى التسوية بطريقة مغايرة، وبفتح باب جديد. صحيح أنه بمجرّد تنازله عن الوزير الدرزي الثالث، انتهز الفريق المحسوب على رئيس الجمهورية الفرصة للانقضاض على الحريري وسمير جعجع، أي التراجع عن منح القوات وزارة العدل.

لكن، بالنسبة إلى التقدميين الاشتراكيين، لا ملامة في هذا على جنبلاط. فلو بقي على شروطه (منفرداً)، فقد يتفاقم التوتر الأهلي في الجبل. ولربما ذهب الحريري وجعجع على غفلة من الجميع إلى التسوية مع عون، كما حدث في مرات ماضية، فيما يبقى هو وحيداً. هذا ما لن يفعله ولن يقبل بحدوثه، لأنه حين يدخل في تسوية، يصرّ على أن يكون أحد صنّاعها أو المشاركين فيها، وهذا جزء من شخصيته و”استراتيجيته”، التي لا تسمح له أن يكون مستلحقاً ومستضعفاً. لجأ جنبلاط إلى هذه الخطوة، بعد استشعاره تطابقاً في النهج بين الحريري والوزير جبران باسيل. إذ إن الثاني أراد إدخال كل خصومه في مواجهة مع بعضهم البعض. القوات بمواجهة الاشتراكي على وزارة التربية، والقوات بمواجهة المردة على وزارة الأشغال، والقوات بمواجهة المستقبل على وزارة الاتصالات. وكذلك الأول، الذي أراد وضع جنبلاط بمواجهة مع حزب الله بشأن وزارة الصحة، ومع القوات بشأن التربية، ومع عون على الحصص ومع بري على وزارتي العمل والزراعة.

يغلّب جنبلاط التسوية على المواجهة. وهذا ما اعتاده منذ نحو عشر سنوات. بعد اتفاق الدوحة، قرر الخروج من قوى 14 آذار. لذلك جملة أسباب، وإن يحسبها البعض عليه كإضبارة اتهام، لكنها كانت ضرورة لا بد منها، في ظل غياب أي أفق أو مشروع واضح المعالم في المواجهة السياسية حينها. حين اختار الوسطية، لم يختر الانهزام الذي وصل إليه حلفاؤه السابقين، بالاندفاع إلى ترشيح خصومهم وانتخابهم رؤساء. هو يذهب إلى التسوية، وليس إلى الاستسلام. وهذا ما يعتبره الاشتراكيون الفارق الكبير بين من يتنازل تسووياً، ومن يتنازل عن الثوابت إلى حد لا يقف عند التنازل السياسي، بل يصل إلى حدّ تهديد النظام والطائف، كالصراع على الصلاحيات، والسكوت عن مطامع السيطرة الشاملة على الإدارات، كان آخر تجلياتها وليس نهايتها خلاف الوزراء على إجراء إداري في وزارة التربية، كان مطلباً للحريري فدفع ثمنه جنبلاط والمحسوبون عليه. على هذا الأساس يتمسك جنبلاط بمغزى عبارة “علّمتني الحقيقة أن أرى جمال التسوية”.