معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

محمود الاحمدية

عادت بي الذاكرة إلى أوائل السبعينيات، وفي يوم أحد جميل كنت أتمشّى في سوق صوفر القديمة التاريخية، ومشهد السيارات التي كانت تمشي على مهل عندما تصل إلى جانب حديقة (فندق صوفر الكبير) التي ازدانت، كما كل نهار أحد، بالأبيض من الطاولات إلى الشراشف إلى الورود التي تزينها وتزين مدخل الفندق، والفرقة الموسيقية التي تعتلي الحديقة، لتقدم أجمل المقطوعات الموسيقية لأشهر العباقرة العالميين من بيتهوفن إلى تشايكوفسكي إلى موزارت إلى رحمانينوف إلى فيردي والقائمة تطول، ويمر الناس أمام هذا المشهد الحضاري بامتياز، وهم مسحورون بمشاهدة مشاهير الفنانين ومشاهير المجتمع المخملي اللبناني والعربي، وآخر صيحات الموضة في ذلك الزمن الجميل من بيوتات باريس وميلانو، وكان التنافس على أشدِّه، وتراه على نساء ورجال ذلك الزمان في فندق صوفر وفي حديقته أيام الآحاد…

فندق صوفر الكبير كان جوهرة الفنادق بتاريخه، بأسراره، بزواره، بالمؤتمرات العربية التي أُقيمت فيه، بطرازه المعماري الذي أشرف عليه مهندسون إيطاليون، حيث مزجوا الحضارتين الإيطالية واللبنانية. وكان ذلك بإرادة من مارد ذلك الزمان إبراهيم سرسق الذي تبوأ رئاسة بلدية صوفر وترك بصمة تاريخية لا تُنسى، حيث أصبحت، وعلى يده وبتوجيهاته وبالرؤيا التي كان يمتلكها، صوفر حجر الراح في تاريخ الشرق من جمال ونظافة وطلة على وادي لامارتين وكورنيشها الذي لم يؤثر عليه الزمن بمائها، وهي الوحيدة في الجبل التي لا ترتكز على مصلحة مياه الباروك، بل ماؤها الطيبة الزلال تأتيها من جبال بوارج البلدة البقاعية، وعن طريق الجاذبية والينابيع الاثني عشر تسقيها، كل ذلك برؤيا إبداعية من إبراهيم سرسق…

وكم كنت مندهشاً عندما علمت أن الفنان البريطاني توم يونج الذي يعشق المعمار القديم العابق بشذى التاريخ، هو الذي رسم أربعين لوحة تختصر تاريخ فندق صوفر الكبير الذي بني عام 1885 ولعب دوراً سيبقى للأجيال، بحيث كان مقراً للعثمانيين ثم للفرنسيين ثم لكبار الزوار العالميين من رؤساء دول وملوك وأمراء وفنانين وسياسيين ورجال مجتمع ورجال أعمال… وقليلون الذين يعرفون أن أول اجتماع قمة للدول العربية أقيم فيه، وحيث شكل نواة لمجلس جامعة الدول العربية بعد ذلك…

قدم الفنان البريطاني توم يونج أربعين لوحة ورسمها في قلب المكان وبأريحية كبيرة، حيث كان يرى على الطبيعة آثار الفندق المهجور وشبه المدمر عدا الواجهات الخارجية والتي حافظت إلى حدّ ما على طرازها وتفاصيلها وعذريتها، وكان يتخيّل كيف كانت كل التفاصيل ويصفها عبر رسومه النابضة بصدق الحالة، وبدأ رسومه في عز البرد القارس في شباط 2018، وكان سعيداً بما يعمل، ومرّ بشخصيات ذلك الزمان من أمين الريحاني إلى عمر الشريف إلى فريد الأطرش إلى أم كلثوم إلى محمد عبد الوهاب إلى أسمهان الذين كانوا نزلاء دائمين وفي كل موسم في هذا الفندق التاريخي… ومن خلال هذا المعرض الذي أقامه والتفاصيل والمجسمات على عذريتها حتى بعد تدميرها كالبيانو المشهور وطاولة الروليت الشهيرة وطاولة القمار والكازينو الذي كان الأول في الشرق قاطبة والذي كان ينافس عالمياً كازينو مونت كارلو، وهذا ليس من باب المبالغة، بل إنها الحقيقة التي لا يمكن لأحد تجاوزها… وأعطى المعرض الرائع الذي بدأ في 16 أيلول 2018 وسينتهي في 14 تشرين أول الجاري، صورة نوستالجية مشرقة ومشرفة لعمل جبار يعود بك إلى التاريخ، وخاصة محطة سكة الحديد المجاورة للفندق والتي شكلت محطة رئيسية بين بيروت ودمشق للمسافرين إلى سوريا وتركيا وأوروبا… أيام ذهبية لا يستطيع الزمان إلغاءها… ولا تستطيع إلا أن تندهش بمنظر الأروقة الداخلية وارتفاعها وعظمة البناء الذي قاوم الحروب والأزمات، والصالات الفسيحة، وكأن حجر الجدران ينطق بسحرها وبالحفلات التاريخية التي كانت تقام فيها… قليلون الذين يعرفون أن هذا الفندق كان مقراً لجمال باشا خلال حكم العثمانيين. وكان مقر الاجتماع الأول بين الفرنسيين والإنكليز في الحرب العالمية الثانية. وكان ومن خلال الاجتماع التاريخي لمؤتمر القمة العربية نواة اللجنة العربية العسكرية المشتركة عام 1944، والفنانون العالميون مروا وأقاموا فيه من إزنافور إلى جيلبير بيكو إلى بياف إلى جاك بريل إلى فريد الأطرش وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، إلى صباح وعمر الشريف وكبار الشعراء العرب، الذي كان مع وادي لامارتين مصدر إلهام لهم… وأكتفي بذلك لأقول: صوفر هل تعيدين مجدك الضائع… مجدك التليد حيث تتحكم الرؤيا والإبداع والعلم، وحيث، وعندما كانت تقام دورات لعبة التنس اللبنانية والعربية والعالمية في ملاعب التنس التابعة للفندق، كنتِ السبّاقة في ملعب الحضارة، وكنتِ الوحيدة التي تمتلك ملاعب للتنس… وبعبقرية إبراهيم سرسق انتقل اسمك عبر سلسلة تحمل اسم مطعم صوفر من القاهرة إلى كازابلانكا إلى طوكيو… الأمل موجود والطموحات كثيرة والمساحات موجودة… لعلّ وعسى!!…

 

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

 

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة

السفير المطرود ظلماً وقهراً