قراءة نقدية لسياسات الرئيس اللبناني و «التيار الوطني الحر»

رامي الريس (الحياة)

تحت شعار «الإصلاح والتغيير»، خاض العماد ميشال عون أقسى المعارك السياسية ضد «الطبقة الحاكمة» منزهاً نفسه عنها، واصفاً إيّاها بأقذع النعوت وأبشعها، ومعتبراً أنها وقفت ضد مشروعه القائم على تطوير لبنان وتعزيز موقفه.

وتحت هذا الشعار، عطّل الفريق السياسي لـ»الإصلاح والتغيير» المؤسسات الدستورية مراراً وتكراراً، تارة تحت عنوان «الميثاقية» وطوراً تحت عنوان استعادة الحقوق المسلوبة»، وفي كِلا الحالين، تعطّل الاقتصاد الوطني وشُلّت مرافقه العامة، وشُوّهت الديموقراطية التوافقية في مفاهيمها الأساسية عندما حوّلت حق المشاركة إلى حق للنقض.

وتحت هذا الشعار، استنُزف لبنان لشهور طويلةٍ في شغور رئاسي، فلم يُسمح للنصاب القانوني بالاكتمال في 43 جلسة متتالية لانتخاب رئيس الجمهورية، قبل إقامة تسوية سياسية أدّت إلى انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية في تشرين الأول (أكتوبر) 2016.

 لكن، أي تقييم موضوعي لمسار العهد منذ انطلاقته لا يوحي بأن ثمة تغييرات حقيقية لمسها اللبنانيون في حياتهم اليومية، بل على العكس، فروائح الصفقات والسمسرات صارت أكثر نتانةً، ومكافحة الفساد لم تنطلق عملياً في أي من المرافق الحكومية أو العامة.

ومع ارتفاع نبرة الاعتراض التي يقودها في شكلٍ أساسي رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، برزت مجموعة من القضايا والعناوين السياسية التي كان يحجبها واقع «الصمت العام» إزاء العهد، إمّا محاباةً أو تملقاً أو لمصلحةٍ سياسية من هنا وهناك.

وفي طليعة تلك العناوين: اتفاق الطائف. إن استعادة الوقائع التاريخية ومسار ولادة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف)، تؤكد أن العماد عون اعترض بشدة على الاتفاق، ورفض الاعتراف به وبشرعية المؤسسات التي انبثقت منه أو التعديلات التي أدخلها إلى الدستور اللبناني، بل إنه منع عودة النواب إلى المنطقة الشرقية (التي كانت تحت سيطرته آنذاك)، وسواها من الخطوات التي لم تنتهِ إلا بإزاحته عسكرياً من القصر الجمهوري في بعبدا، وقد سكنه بعد تكليفه رئاسة الحكومة العسكرية الانتقالية مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل سنة 1988.

ولم يفهم اللبنانيون متى اعترف عون بالطائف، ومتى قبل به، وعلى أيّة أسس، وكيف زالت أسباب الاعتراض التي كلفت البلاد أثماناً باهظة بشرياً واقتصادياً واجتماعياً. فالنص الذي وضع سنة 1989 وأقر في السنة التي تلت، لم يتغير فيه حرف واحد، بل إن الاتفاق سلك طريقه إلى التنفيذ ولو أن بعض بنوده كإلغاء الطائفية السياسية بقي متعثراً نتيجة الخوف الديموغرافي للبعض والمصالح الآنية للبعض الآخر!

مهما يكن من أمر، فإن الرئيس عون أصبح الآن رئيساً لجمهورية الطائف ومنتخباً من مجلس نيابي منبثق منه (ولو أنه طعن بشرعيته يوماً)، وأقسم اليمين الدستورية للحفاظ على الدستور.

هذا في النصوص النظرية، أما في التطبيق فمقولة «الرئيس القوي» فعلت فعلها في أدبيات التيار الوطني الحر وقد فاخر أحد نوابه بأن عون «عدل اتفاق الطائف بالممارسة»، وهو ما ينطوي على دلالات خطيرة من شأنها المس بالتوازنات التاريخية الدقيقة في لبنان وتعريضها لاهتزازات واختلالات عميقة سبق أن جُرّبت في حقباتٍ سابقة وأدّت إلى اضطرابات وحتى إلى اندلاع دورات من العنف في بعض الأحيان.

إعادة التذكير بهذه الوقائع التاريخية لا تندرج في إطار التهديد أو التهويل، بل تقع في سياق إعادة قراءة الوقائع التاريخية بدقة، بالنظر إلى حساسية التركيبة اللبنانية التي أثبتت التجارب أن المسّ بها غالباً ما تكون نتائجه وخيمة.

وغنّي عن القول إن التلاعب باتفاق الطائف الذي وُلد في لحظة تقاطع دولية وإقليمية وعربية ليس من السهل تجاوزه، لا سيما في غياب الحد الأدنى من التفاهمات الوطنية حيال قضايا أقل بأهميتها كثيراً من وثيقة ميثاقية حسمت الخلاف حول أمور كبيرة، ووضعت حداً للحرب الأهلية. وحريٌ بالعهد وبعض رموزه، بدل المبالغة في المفاخرة السياسية حول تعديل «الطائف» بالممارسة، الانصراف إلى تطبيق ما لم يُطبّق من بنوده، وفي مقدمها إلغاء الطائفية السياسية (أو أقله إنشاء الهيئة المنوط بها دراسة السبل الآيلة لإلغائها)، تطبيق اللامركزية الإدارية والإنماء المتوازن، والإقلاع عن السعي الحثيث الى خلق أعراف وتقاليد جديدة وتدجين المؤسسات، وسواها من الإجراءات التي تضر بالعيش المشترك في لبنان.

وتبقى مسألة التداخل القائم بين موقع الرئاسة الأولى و»التيار الوطني الحر»، وهو التداخل الذي غالباً ما يولد إشكاليات سياسية، فالحرص الجماعي على موقع الرئاسة لا يلغي أن الرئيس لم «يلجم» مرة رئيس تياره السياسي الذي غالباً ما يبدد رصيده السياسي من خلال مواقف عدائية لا تتناسب مع الطبيعة الديبلوماسية التي يفترض أن يتحلى بها رئيس الديبلوماسية اللبنانية، الذي يبدو أنه يتابع كل الملفات، ما عدا ملفات السياسة الخارجية التي شهدت في عهده تدهوراً غير مسبوق، لا سيما على مستوى العلاقات اللبنانية – العربية التي لطالما كانت قائمة وعميقة في أحلك الظروف.

يُضاف إلى ذلك، أن نموذج الحكم الذي طبقه «التيار الوطني الحر» لدى وصوله إلى السلطة عكس عطشه المزمن لمحاسنها وخيراتها، فراح يهاجم كل من ينتقد مقترحاته للحلول في الخدمات العامة، وفي طليعتها الكهرباء، على سبيل المثال.

إن إصرار وزارة الطاقة والمياه (التي يتولاها التيار العوني منذ سنوات) على رفض كل الدعوات للاستماع إلى الآراء القانونية التي قدمتها إدارة المناقصات (ومنع مديرها من الإدلاء برأيه أمام وسائل الإعلام أو تزويدها بمعلومات)، تفوح منه روائح الصفقات. ولا يقل استغراباً إصرار الوزارة إياها على تطبيق الحلول التي هي الأكثر كلفة والأقل استدامة، عبر استئجار البواخر والامتناع عن إقامة المعامل البرية التي تحل المشكلة.

وتطول لائحة الأمثلة عن تحوير الحقائق ومحاولة تقديمها على أنها على غير واقعها الفعلي. المهم الاستمرار والبقاء بواسطة الشعبوية في معزل عن الأكلاف والأثمان!

——————————

(*) رئيس تحرير جريدة “الأنباء” الالكترونيّة

Facebook: Rami Rayess II

Twitter: @RamiRayess