مُعجزة التنمية في ألمانيا

د. كليب كليب

المقالة الحاضرة هي استكمال لمقالتنا الأخيرة التي كانت بعنوان “كيف نستلهم العبر من نهج أنجيلا ميركل وسياسة الحكم في ألمانيا تمهيدًا لإجراء مقاربة للسياسة التي اعتمدها لبنان في معالجة آثار الحرب”.

نشير بداية إلى أننا استعرنا تعبير معجزة من كتاب أصدره “آلان بيرفيت” بالفرنسية تحت عنوان Du “Miracle” en Économie1995, Editions Odile Jacob.

وعبارة معجزة اقتصادية استخدمت للمرة الأولى في وصف الإنبعاث المذهل لإقتصاد ألمانيا الإتحادية (الغربية) في مطلع الخمسينات من القرن العشرين. ثم تكرّر الكلام عن معجزة إيطالية في أواخر الخمسينات وعن معجزة يابانية في عقد الستينات من القرن المذكور. وما يُثير الفضول في هذ الحالات أنّ المعجزة الاقتصادية حصلت في الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية (مقالتنا ستقتصر على حالة ألمانيا).

في ألمانيا التي فقدت حوالي 10 مليون قتيل ومعوّق وخسرت أجزاء من أراضيها وتراجع إقتصادها في العام 1946 إلى ما نسبته حوالي 29% مما كان عليه في العام 1936، كان المطلوب إعمار كل شيء: المدن، البنى التحتية، المصانع، المزارع حتى الأسر نفسها التي عانت من غياب بعض الأفراد لسنوات أو فقدانهم بشكل دائم أو توزّعهم على الألمانيتين. كما كان على ألمانيا الإتحادية إيواء وتشغيل 13 مليون لاجئ ألماني هاربين من الشرق وإعادة تحويل آلاف المعامل والورش الصناعية التي سبق تحويلها خلال الحرب من التصنيع المدني إلى التصنيع العسكري.

ومن اللافت أنّ الاقتصاد الألماني حقق نموًا سريعًا منذ السنوات الأولى لنهاية الحرب فاق الـ 7% سنويًا (بين الـ 1945- 1950) متفوقًا بذلك على كل الإقتصادات الأوروبية، الأمر الذي مكّن ألمانيا من خفض معدل البطالة من 1.580.000 عاطل عن العمل من أصل 13.827.000 عامل في أيلول 1950 أي ما نسبته 11.42% إلى 95000 عاطل عن العمل من أصل 20.933.000 عامل أي ما نسبته 0.45% عام 1961 (من كتاب المعجزة في الاقتصاد ص 40).

إنّ ما حدث في ألمانيا في الفترة ما بين 1945- 1961 كان معجزة حقيقية حدثت في كل الفروع الصناعية. كما حدثت معجزة موازية في الزراعة الألمانية أيضًا. فقد وفّرت الزراعة لألمانيا قدرًا كبيرًا من الإكتفاء الذاتي. وقد حصل ذاك نتيجة لحصر الرهان في الريف على الفلاحين ومنحهم دون سواهم الحق في الملكية الزراعية ومنحهم الثقة في مبادراتهم لتحديث وتنويع وتكثيف إنتاجهم.

فما هي أسباب هذا الإرتفاع في معدل النمو والإنخفاض في معدل البطالة إلى ما يقرب من التشغيل الكامل في تلك الفترة؟

عوامل عديدة، بعضها موضوعي والبعض الآخر ذاتي ومنها ما هو مادي ومنها ما هو تقني وثالث معنوي.

أولاً: العوامل المادية:
ركّز بعض الإقتصاديين في تفسيرهم لما جرى في تلك الفترة على العوامل المادية ومنها:

1- إعتبر البعض أنّ إعادة الإعمار في ألمانيا جاءت مُربحة أو أكثر جدوى وأقل تكلفة مما لو تمّ إصلاح أو ترميم أو استبدال التجهيزات القديمة. هذا التفسير يبدو مغريًا، إلاّ أنّ ألمانيا لم تستأنف إنطلاقتها من الصفر. فالحقيقة أن الطاقة الصناعية الألمانية كانت مجمّدة لكنها لم تكن معدومة. فمنشآت صناعة النسيج بقيت سليمة بنسبة 80% والصناعة الميكانيكية بنسبة 85%، أما الصناعات الكيميائية والمنشآت المعدنية، فكانت جاهزة للعمل بنسبة 90% من طاقتها.

2- ردّ إقتصاديون آخرون حصول المعجزة لواقع أنّ ألمانيا (كما هو الحال بالنسبة لليابان وإيطاليا) قد مُنعت من القيام بالتصنيع العسكري الأمر الذي دفعها إلى تكثيف استثماراتها في الصناعات المدنية خاصة في صناعة وسائل الإنتاج. كما اعتبروا أنّ ألمانيا لم تكن، بعد الحرب، منهمكة بتسوية المشكلات الإستعمارية كونها لم يكن لديها مستعمرات تُذكر.

3- ردّ البعض حصول المعجزة الألمانية (كما هو الحال بالنسبة لليابان وإيطاليا) إلى أن الحلفاء لم يجبروا الدول المهزومة على دفع تعويضات للدول المنتصرة كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى. ومن المعروف أنّ التعويضات الباهظة التي أجبرت ألمانيا على دفعها بعد الحرب العالمية الأولى كانت السبب المباشر لحدوث أزمة التضخم النقدي في ألمانيا في سنة 1924 (والتي عمّت على صعيد أوروبا الغربية) والسبب غير المباشر لأزمة الكساد العالمي لاحقًا سنة 1929.

4- أعطى بعض الإقتصاديين للوفورات الخارجية التي تمثّلت بالتحويلات المالية التي وفّرها مشروع مارشال دورًا أساسيًا في حصول المعجزة الألمانية. غير أنّ هناك من يشكك بفاعلية هذه الفرضية. إذ أنّ ما نالته كل من فرنسا وهولندا وبلجيكا (حسب الحصة النسبية لعدد سكان كل منها). يُعادل أو يفوق ما نالته جمهورية ألمانيا الإتحادية من المعونات الأميركية. ثمّ أنّ هناك رؤوس أموال مماثلة مُنحت لدول أميركا اللاتينية ولم تُحدث أي معجزة.

في الواقع لم تكن الأهمية لحجم الأموال الممنوحة بل لطريقة استخدامها، ففي الوقت الذي كانت فيه ألمانيا الإتحادية تستثمر ما تلقته من تحويلات مالية من مشروع مارشال في بناء الطاقات الإنتاجية وتحديث البنى التحتية، كانت فرنسا تنفق حصتها من هذه الأموال في تعزيز قطاع الإستهلاك (تحسين رواتب موظفي الدولة) بينما أنفقت حكومات أميركا اللاتينية حصصها من هذه المعونات في مجالات أدّت إلى تغذية المحسوبية والفساد والتضخم بدلاً من أن تُنفق على إحتياجات التنمية.

5- وفسّر إقتصاديون عديدون حصول المعجزة الألمانية بعوامل مادية أخرى مثل:

– نمو الإستهلاك في القارة الأوروبية بشكل كبير بعد الحرب الأمر الذي عزّز الطلب على الإنتاج وبالتالي على الإدخار والإستثمار، وكأن الناس كانوا يتصرفون بما يشكل نوعًا من التعويض عن الفاقة والحاجة ونقص السلع في فترة الحرب.

– الدور الإيجابي لوجود اللاجئين الألمان القادمين من الشرق (13 مليون) الذي كانوا مصمّمين على صنع حياة جديدة لهم بأي ثمن. فقد أدى وجود هؤلاء إلى الحؤول دون مطالبة العمّال والنقابات الألمانية بأي زيادة في الأجور وهذا ما عزّز أرباح الشركات وإعادة تشكيل استثمارات منتجة مما أتاح خلال فترة قصيرة خلق تمويل ذاتي لإعادة الأعمار.

– تخصيص نسبة مهمة من الدخل في ألمانيا للإستثمار، ولقد استأثرت الصناعات الحديثة (صناعات كيمياوية وكهربائية وإلكترونية) على النسب الأعلى من مجمل هذه الإستثمارات بينما سجّلت الصناعات التقليدية إنخفاضًا في معدلات الإستثمار.

– إستمرار ألمانيا ودول القارة الأوروبية في اعتماد السياسات الحمائية والقيود المفروضة على التجارة بشكل كلي حتى عام 1956 (أي بعد 11 عامًا على نهاية الحرب) وبشكل جزئي حتى عام 1961. أي إلى الوقت الذي توفرت فيه لألمانيا ودول القارة الأوروبية كميات كافية من الذهب والدولار. تجدر الإِشارة إلى أنّ دول أوروبا الغربية أبقت على الرسوم الجمركية المرتفعة مع الخارج حتى مطلع السبعينات من القرن العشرين، بينما كانت قد أطلقت سراح التجارة فيما بينها (تعاون الضعفاء) فاستفادت من مزايا السوق الكبير وعوّضت عن خسارتها لمستعمراتها السابقة التي كانت قد تحرّرت بعد الحرب. فلو كانت أوروبا قد عادت بشكل سريع إلى حرّية التجارة لما كانت قد تخلصت من تبعيتها للسوق الأميركية حتى الآن.

أخيرًا، لم يكن النمو الذي تحقّق في ألمانيا بعد الحرب وحيدًا إذا انّ دول العالم الأخرى قد حققت معدلات متفاوتة في النمو فيما بين الـ 1945 والـ 1971 إلى حدّ إطلاق تسمية “ربع القرن المجيد”، على تلك الفترة. ولقد حدث هذا النمو بفضل اعتماد سياسات أعطت للدولة دورًا واسعًا في التخطيط وإدارة الأزمات. غير أنّ النمو في ألمانيا كان استثنائيًا من حيث ارتفاع معدلاته وقياسًا بحجم الدمار الذي عرفته ألمانيا خلال الحرب.

إنّ للعوامل والأسباب المادية التي ذكرنا أهميتها النسبية في حدوث المعجزة الألمانية فماذا عن العوامل الأخرى؟

ثانيًا: العوامل التقنية والمعرفية:

لعلّ أفكار الاقتصادي الكبير النمساوي “جوزيف شومبيتر” حول ما أسماه بـ “عملية الخلق الهدّام” أي إطاحة المبتكرات الناجحة بالتقنيات الأدنى مستوى، ولاحقًا حول دورات الأعمال “Business Cycles” من خلال تحليله للوقائع التاريخية أنّ المبتكرات التكنولوجية تميل إلى التجمع في موجات… لعل هذه الأفكار أكثر ما تنطبق على واقع ألمانيا. فألمانيا التي كانت قد تأخرت في تحقيق وحدتها السياسية وثورتها الصناعية حتى العام 1840، ما لبثت أن أصبحت بعد إنتهاء حرب المئة عام بينها وبين فرنسا، منطلقًا (مع الولايات المتحدة الأميركية) للثورة الصناعية الثانية في العام 1870 (ثورة الصلب والكهرباء) وللثورة الصناعية الثالثة مع أميركا نفسها (ثورة المعلوماتية والإتصالات) منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين. ولقد كان لدخول ألمانيا في إقتصاد المعرفة دور كبير في تحقيق المعجزة الاقتصادية الألمانية.

وفي مجال موازٍ وخلافًا لآراء الإقتصاديين التقليديين الذين كانوا يعتقدون وبعضهم ما زال حتى اليوم، أن تراكم رأس المال المادي هو السبب الرئيسي لزيادة إنتاجية العمل، إعتبر Robert Solow الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية أنّ عناصر رأس المال المادي كافة لا تُسهم بأكثر من 19% في زيادة إنتاجية العمل أمّا النسبة الأخرى (الـ 81%) فيردها إلى عامل الإنزياح التقني أو “التحول التقني” (Technical Change) وهذا ما قد يفسّر دور التطورات التكنولوجية في نمو الاقتصاد الألماني.

وفي إطار نظريات النمو الاقتصادي الجديدة التي أصبح فيها دور رأس المال البشري، المتمثّل بزيادة المهارات البشرية الأساسية من خلال التعليم والتدريب، مساويًا بالأهمية لعنصر رأس المال المادي والعمل، لاحظ تيودور شولتز (Theodore Schultz) الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أيضًا، أن تعافي الإنتاج في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية رغم الدمار الشامل الذي لحق برأس المال المادي مرده إلى وجود رأس مال بشري مهم، ولقد لاحظ شولتز أنّ ما لم يتم تدميره في ألمانيا واليابان كان رأس المال المتمثّل في خبرة المدراء ومهارات العمال المتراكمة وهذا ما وفّر الأساس للنهضة الصناعية.

وهذا يتفق مع آراء بعض الإقتصاديين المحدثين ومنهم Paul Romer وRobert Lucas و”توماس جيفرسون” الذي رأى أنّه على عكس رأس المال المادي يمكن زيادة رأس المال البشري والحفاظ على عوائد حدّية ثابتة عوضًا عن تناقصها مما يسمح باستمرار النمو الاقتصادي دون توقف.

إنّ الأبحاث المشار إليها لم تجرَ حصريًا على الاقتصاد الألماني إنما تتطابق نتائجها بشكل كبير مع الظروف التي رافقت حصول المعجزة الاقتصادية في ألمانيا.

ثالثًا: العوامل المعنوية

من الواضح أنّ للعوامل المادية والتقنية والعلمية أدوارًا في حصول معجزة التنمية الاقتصادية والبشرية في ألمانيا وإن بنسب متفاوتة غير أنّ هناك دور كبير للعوامل المعنوية من نفسية ووطنية وأخلاقية وسياسية. يأتي على رأس القائمة عامل روح التسامح الديني والتنافس الروحي الإيجابي بين الأديان، فألمانيا تعتبر دولة تعدّدية، يتعايش فيها البروتستانت والكاثوليك واللادينيون (والمسلمون لاحقًا) بسلام ووئام.

ويتمتع الألمان بحس وطني قلّ نظيره فهم يحترمون القانون ملتزمون بالنظام بل ينتظمون في الغالب طوعًا في عملهم في المؤسسات دون الحاجة إلى جهد كبير من قبل المؤسسات الرقابية.

والشعب الألماني يقدّس العمل ويعتبر الإدّخار وبالتالي الإستثمار شكلاً من أشكال الفضيلة.

وقد تلاقت هذه الصفات مع وجود حكم صالح خلق قدرًا كبيرًا من الإنسجام بين الخيارات الدستورية والسياسية خاصة فيما يتعلق منها باللامركزية الإدارية.

ولقد أدّت الرغبة العارمة في الخروج من البؤس والهزيمة وحسن المبادرة والإقتناع بأن عودة الأمور إلى ما كانت عليه تتمّ في حقل الاقتصاد، باعتبار أن دور السياسي ينحصر فقط في عملية التنظيم، إلى الإنبعاث المذهل للإقتصاد الألماني خلال فترة وجيزة.

ولقد كان لثقة القيادة الألمانية (خاصة في زمن لودفيغ إدهارت) بمبادرات المستثمرين والإستجابة المعنوية للنظم النقدية والمصرفية الأثر الطيب في حصول هذا الإنبعاث.

ولقد كان لعنصري الوحدة الوطنية والإنصهار الاجتماعي الأثر العظيم، وقد سرّع اللاجئون الوافدون من الشرق في تشكيل هذا الإنصهار إذ أصبح الجميع مستعدٌ للعمل أما الرتب والتراتبية الإدارية فقد ضَعُفت إلى حدّ كبير.

لقد أدّى إحساس الألمان بأنهم أمام مصير مأساوي مشترك رغبة كبيرة عندهم في التعاون والتعاضد والوحدة الاجتماعية فنادى أرباب العمل بضرورة الإكتفاء بالقليل من الأرباح في حين نادت النقابات العمالية بتأجيل المطالبة بإقرار زيادات على أجور العاملين.

ولقد وضعت بعض الكتابات مشاهد عن هذه الوحدة الاجتماعية في مشاهد تُظهر أرباب العمل والعمال يجلسون على الأرض في مكاتب لم تترك الحرب فيها كراسٍ أو طاولات خلال اجتماعات لتنظيم العمل، أو في رؤية برجوازيين وعمال يتسكعون معًا بين الأنقاض (خاصة في الفترة 1942-1948) ويسكنون الأقبية ويأكلون الحساء الشعبي. وفي الخمسينات واضبوا على ما اعتادوا عليه في إرتياد الحانات نفسها وبعض المطاعم الرومانسية المتبقية تحت الخرائب مع عائلاتهم. وفي وقت لاحق أضحت تلك الخرائب والأنقاض بروجًا مشيدة ومدعاة لفخر كبير عند الألمان لما حققوه بجهودهم وسواعدهم وبتمويل ذاتي منهم.

إني أعتقد أنّ العناصر المعنوية وخاصة الثقافية منها لعبت دورًا أساسيًا في حصول المعجزة الألمانية وأنّ أي شعب آخر قد يتمكن من تحقيق الشيء نفسه إن إتّخذ لنفسه ثقافة مشابهة.

(الأنباء)