«الديموغرافيا» واللجوء في قلب الأزمة الوطنية اللبنانية

د. بهاء ابو كروم (الحياة)

دخل ملف النازحين السوريين في لبنان مرحلة جديدة من التفاعل الداخلي وتسبّب بانقسام سياسي وطائفي على هذه الخلفية. فالطَرْق العنصري الذي مارسه وزير الخارجية الذي ينتمي إلى تيار رئيس الجمهورية ميشال عون على ملف النازحين أفضى إلى نشوء أزمة سياسية قوية في البلاد تذكر بالانقسام اللبناني حول اللجوء الفلسطيني في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية. وعلى رغم أن الاستقطاب حول هذا الملف وكيفية التعاطي معه ليسا جديدَين إلا أن الجديد هو تضافر عدة عوامل تشي بالاستعجال برسم الحدود الديموغرافية في كل المنطقة، وسعي إلى ترجمة الوقائع الميدانية في سورية في المعادلة الداخلية اللبنانية.

لبنان بلد قائم على فلسفة الديموغرافيا منذ لحظة انفصاله عن العمق السوري، وهي تتحكم بكل مفاصله السلطوية، ومشكلته أن هذا العمق بكل أطيافه ينظر إليه من زاوية التجزئة وانسلاخ الجزء عن الكل، ولبنان في المقابل يشكو من عقدة الذوبان في المحيط. وعلى رغم أن الفجوة العددية بين الطوائف اللبنانية القائمة واقعياً تم عزلها عن التأثير السياسي في اتفاق الطائف، إلا أن ذلك لا يعني غضّ النظر عن أي تدفق بشري على الجغرافيا اللبنانية من زاوية التوازن في الصيغة الطائفية.

هذه «المعضلة» صمدت بوجه كل محاولات تجاوز الخلفية الطائفية في نقاشات من هذا النوع. لذلك، فإن «هوية» النازحين، عدا أنها تسببت بنزوحهم إلى لبنان، فهي التي تدفع فريق رئيس الجمهورية للذهاب بعيداً بهذا الملف.

هذا الطارئ على الديموغرافيا اللبنانية، ولا يُقلّل أحد من أثره الاقتصادي والمالي على البلاد، يمكن عزله كتأثير سياسي في حال تشكلت من حوله سياسة وطنية جامعة تعمل على إدارته وتُبقيه في صيغة المؤقت، ويمكن تلطيف كل تداعياته بالتعاون مع المجتمع الدولي، لكنه في الوقت ذاته يتحول إلى مشكلة داخلية في حال استُعيدت كل لوازم ومصطلحات ما قبل الحرب الأهلية، ونُظر إليه من هذه الزاوية حصراً، والأخطر في حال تم توظيف هذا الملف ليخدم مصلحة نظام الأسد.

طبعاً يُفترض التوقف أمام الحجم الكبير للكتل النازحة جراء الحرب السورية وتلك التي تستوطن مكانها كواقع يترك أثره على مصير النازحين، إضافة إلى جملة الأنظمة والقوانين التي يطلقها النظام في سورية للوصول إلى لحظة «التجانس المجتمعي» التي أشار إليها بشار الأسد، ويجري ذلك استباقاً لأي إعمار للمناطق المدمرة، التي ومن أجل ذلك، يُفترض تهشيم مصداقية الرقابة الدولية ومؤسساتها تمهيداً لتغيير الوقائع هناك، وتتبرّع الديبلوماسية اللبنانية لأجل ذلك.

فهذا الاندماج بالاستراتيجية إنما تتوضّح معالمه وأدواته التي تتحضر للعب أدوار مالية (إعمارية، ونفطية) بين لبنان وسورية، وهذا ما فضحه مرسوم التجنيس أخيراً. كل ذلك إنما يضع المعطى الديموغرافي في المنطقة كلّها في دائرة إعادة الخلط، ويضع النازحين السوريين في لبنان أمام تحدٍّ جديد يجري ترتيبه بشكل تكاملي بين النظام السوري وجماعته في لبنان.

لا شك في أنه من البديهي أن يمتلك النظام السوري تصوّراً لمستقبل النازحين السوريين في لبنان، وهذا ما ظهّره عندما شهَر بوجههم القانون الرقم 10، ومن البديهي أيضاً أن لا يتخلى عن هذه الورقة إن كان لجهة الضغط على لبنان أو لجهة تحسين شروطه في التفاوض مع المجتمع الدولي. قوة النظام السوري تمثلت تاريخياً في قدرته على تصدير الأزمات إلى الخارج وابتزاز المجتمعين العربي والدولي!

أمام ذلك، كان لا بد للبنان أن يرسم سياساته على قاعدة مصلحته الوطنية التي يحصنها التوافق حول هذا الملف على رغم تأثيراته الاقتصادية التي لا ينكرها أحد. وفي الوقت الذي سعى فيه رئيس الحكومة سعد الحريري إلى رسم سياسة وطنية جامعة لمواجهة هذا التحدي وتحشيد الدعم الدولي والمساعدات الاقتصادية للبنان ونجح في ذلك إلى حد بعيد، ذهب فريق رئيس الجمهورية إلى تناول هذا الملف من زاوية التحدي الوجودي، وتحرّك تجاهه بشكل مستقل من دون الاكتراث بالتوافق اللبناني أو انتظار تشكيل الحكومة الجديدة وما سيتضمنه بيانها الوزاري الذي سيعكس السياسة التي ستنتهجها لإعادة النازحين إلى بلادهم.

في واجهة المشهد سؤال يتعلّق بالصلاحيات حول الجهة المخولة انتهاج سياسة تصل إلى حد اندلاع مواجهة مع المجتمع الدولي، أتعلّق الأمر بوزير ينسق مع حميه (رئيس الجمهورية) أم بالحكومة ورئيسها الذي ينفذ سياسة وطنية نالت ثقة المجلس النيابي. في الخلفية تقف قضايا أبعد من ذلك، تتعلّق بالحس الديموغرافي الذي يقود غالباً إلى استقطاب طائفي من حوله. المغالاة في الاندفاع بوجه قضايا اللاجئين الفلسطينيين والسوريين ولّدت ردود معبرة أتت على لسان سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان الذي سأل «كيف يقرر فرد أو طرف في مسألة خطيرة كهذه»، وأضاف: «إنه ليُراد طرد هؤلاء المستضعفين في اتجاه المصير الذي هربوا منه».

إذاً من الآن فصاعداً بات لملف النازحين أبعاد تتعلّق بالتوازن السياسي الداخلي، بخاصة بعدما أشّر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى ذلك، فموضوع الاستقواء على النازحين وتسليمهم للجلاد لا يمر مثل أي تهريبة! ولدى لبنان رصيد من القوى الحية والأخلاقيات الإنسانية ومساهمات لديبلوماسيته العريقة في قضايا حقوق الإنسان، تحصنه في مواجهة التوجهات الشعبوية.

تعيش الديبلوماسية اللبنانية أزمة حقيقية يعبر عنها الفارق في القيمة بين ما أضافه العريق شارل مالك عندما اختير مقرراً للجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وبين المماحكات التي تتحكم بأدائها اليوم.