فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

محمود الاحمدية

عشرين عاماً قضيتها بكل تواضع حتى استطعت إنهاء تأليف كتابي “فريد الأطرش العالمي نابغة عصره” أكثر من مئة مناسبة وواقعة وشهادة من كبار الموسيقيين والفنانين والنقاد والكتّاب من كل أنحاء العالم أعطوا ثقتهم بفريد الأطرش، والأهم من كل ذلك التفرّد بهذه الخطوة وهذا التقدير العالمي بفنان عربي جَسَّدَ فنّ أمته على امتداد القارتين آسيا وأفريقيا، فاجتاحت موسيقاه العربية أربع زوايا الأرض بقوة واقتدار… وكان وسام الخلود الفرنسي الذي أُعطي لثلاثة: بيتهوڤن، شوبان، وفريد الأطرش وكأن الأمم المتحدة وعبر منظمة اليونسكو الدولية تؤكد هذا الموقع وهذا الرقي وهذه العالمية لفريد الأطرش عبر إطلاقها عام 2015 الذكرى المئوية لثلاثة كبار في العالم: فريد الأطرش العربي، فرانك سيناترا الأميركي وأديت بياف الفرنسية.

مما أثار حشريتي أن أكتب وبكل تواضع هذه المقالة التي ومن خلال سطورها تتبين لنا جماليات الفن وسرّ هذا الارتباط الوثيق بين الأغنية والمشاعر بين الموسيقى والأحاسيس.

فريد الأطرش كان من أشد المعجبين في عالم الأغنية ببُعدها العالمي بشوبرت وفاغنر وموزار… وقد لفتت نظري أغنية “سيريناد” لشوبرت حيث أنها تصور قلباً يرسل وقد فاض به العطف نداء الغرام نحو محبوبته أي معبودته، فتنقله إليها أجنحة الظلام، وتنهيدة عاشق كبير يحتضن حبيبته الصغيرة على صدره يهدهدها برقته في أرجوحة الليل، طالباً منها بحنان أن توافيه إلى الغابة الهادئة، حيث تهمهم الأشجار والقمم، وتوشوش في ضوء القمر، وحيث لا خوف من أن يراهما أحد. وهل أقدس من عاطفتهما ولَم عساهما يخجلان بها؟ إنها تمنحهما الجرأة والثقة بأنه لن يزعجها رقيب وأن الفتى ليناشد فتاته هاتفاً: ألا تترأفين بحالي؟ إن البلبل ذاته يفهم مشاعري ويشفق عليّ، فيتوسل إليك أن ترحميني. وأي قلب قاس يستطيع أن يصمد أمام عذوبة شدوه الشبيه بأصداء الفضة؟ وينهي الولهان نجواه بأن يهيب بشاغلة باله بأعنف ما يبلغه الوجد أن تستجيب للنداء الملحاح الذي يسرّ به إليها بكل جموح عاطفته ورغبته ووعد السعادة المنتظرة الخافق بين ضلوعه. قارئي العزيز ألم تشعر وكأنني أكتب عن أغنية “يا قلبي يا مجروح” كلمات ولحناً، أو “الربيع” أو “أول همسة” أو “لحن الخلود” أو “عش أنت” حيث حيّرت كلمة واحدة “القرآن” أي القرآن الكريم التي أتت في بيت من قصيدة الأخطل الصغيرة بشارة الخوري:

وحياتي عينك وهي عندي      مـــثــــلــمـــــــــــا القـــرآن عـــنـــدك

وتكاثرت القصص والروايات حولها فكان الاتفاق بشكل نهائي على ابدالها بكلمة “الإيمان” وهكذا كان لأنه من الحرام إنزال كلمة القرآن في قلب أغنية عاطفية… هكذا كانت دقة الكلمات وسمو المشاعر وعظمة الفنانين المبدعين… والكلمة تكتسب طاقة على التعبير أضعاف المرّات بتأثير الغناء الذي تصبح بفضله أوامر المتسلط الجاد الأكثر حزماً، ونكات الهازل المستخف أكثر وقعاً. إننا، إذ تحطم الأنغام قشرة العادة السميكة التي تتحجر ضمنها عواطفنا، نفتح قلبنا لكل ما تقوله الألفاظ. أتحدّثنا عن الحب، إننا نذوب وجداً، أتحكي لنا عن العطف؟ إننا نفيض عذوبة وحناناً. إننا نصدّق كلّ ما تدعيه العبارات، لأن الموسيقى حرّرتنا من سجن الأنا الضيق. أما المغنّي فإن عظمته لا تكمن فقط في قوة صوته المادية، وفي طول نفسه، وفي جمال أوتار حنجرته، بل الروح التي يبثّها عبر إنشاءه، الذي يعرف كيف يجسّد فيه تلك الأحاسيس التي قصد إليها الملحّن فيصبح هكذا أداة لنقل العاطفة وترجمة لغة القلب أفضل من أي آلة موسيقية، فكيف إذا كان الملحن والمغنّي واحد مثل فريد الأطرش فتصبح التجربة توحداً حقيقياً بين الكلمة والملحن والتعبير.

وتأثر فريد الأطرش يجد صداه في أغنية “إيمان الربيع” لشوبرت والتي وصفها أحد كبار نقاد ذلك الزمن بالقول: “إنها تبث عبيراً كذلك العبير الذي كان البيلسان النضر يبثه، عبيراً مرّاً حلواً قوياً مضغوطاً، مفعماً بجو بشائر الربيع” وشوبرت في هذه الأغنية يدوزن أوتار الفرح، فتغني طرباً حتى لتكاد تبكي من حنان لعودة الفصل الجميل، الذي تقلّد وداعة ونعومة هوائه وكأنها بشرة تتلقى بلذة أول النسائم المحبّبة، أو وشوشة خافتة مبثوثة في أذن الحبيب، وتعذب الأصوات ويفوح أريح الأزهار، ويدخل المركب أخيراً مرفأ الأمان حيث لا يعود يخشى أية عواصف، وحيث يعده الأمل بأن الرياح ستتغير وتتحول في صالح الأشرعة: العالم يكتسي بحلّة حديثة، ويزداد جمالاً يوماً بعد يوم، ويروح يغدق الوعود الخلابة على ذلك المسافر في الزمان، الذي يطلّ فجأة على بلد غريب مدهوشاً بهذه البساتين المزهرة التي يجدها أمامه، وهذا الوادي الأخضر الذي يشرف عليه أخيراً، والذي يغريه بإقامة طيبة ومثيرة بين ربوعه. وتختم الأغنية على حداء ناقوس هو بمثابة لازمة تبشر بقدوم موسم الخير.

من خلال هاتين الأغنيتين لشوبرت يتبيّن لنا مقدار الأبعاد والظلال والعواطف والأحاسيس التي كانت تحيط بفريد الأطرش بدءاً من رحلته وهو طفل إلى مصر وتأثّره بكل العناصر التي أحاطته وجعلته يترجم كل بيئته إلى عالم مسحور من النغم والجمال والسمو.

فريد الأطرش عندما ذكرتَ اسم شوبرت أثرت فضولي وصولاً إلى الإيمان بأن أصدق الفن هو التعبير بأصالة عن هذا الفن وبعمق وبدقة وبعيداً عن النسخ والنقل لأن عظمة فنك أنك وبشرقيتك الأصيلة استطعت أن تكون شوبرت آخر وشوبان آخر وبيتهوڤن آخر…

لذلك أُطلقها وبكل محبة نداءاً إلى كل الذين يقدرون الفن ويمارسونه والذين يعيشون بصدق اللحظة وبسمو التعبير وإثناء مطلق أي مقابلة تأخذ طابعاً فنياً أن يبتعدوا عن التعتيم على هذا العملاق العربي الكبير وأن يكون دائماً وأبداً فريد درة التاج على جبين الفن العالمي.

 

*رئيس منتدى أصدقاء فريد الأطرش

 

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة

السفير المطرود ظلماً وقهراً