ترامب يطلق «تركيزاً متوازياً» في المحيط الهادىء والشرق الأوسط

د. بهاء ابو كروم (الحياة)

تستوحي الولايات المتحدة من نظام العقوبات الشديد الذي تضمّنه القرار الدولي الرقم 2357 بوجه نظام بيونغ يانغ وأدى بها إلى تدمير منشأة «بونغي-ري» للتجارب النووية، نموذجاً يشجعها على اتباعه بوجه إيران التي استفادت من الاتفاق النووي لتقوية نفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط. وقد أتى إعلان مايك بومبيو استراتيجية جديدة تجاه إيران لكي يبرز قدرة دونالد ترامب على التعاطي بالملفات النووية والاستراتيجية بشكل متوازٍ يربط بين ساحات آسيا والشرق الأوسط وذلك بعكس السياسة التي اعتمدها سلفه.

فحين أعلنت إدارة الرئيس باراك أوباما استراتيجيتها في 2009 التي أطلقت عليها «إعادة التوازن والتركيز على الباسيفيك»، كانت بذلك تهرب من فشلها في العراق وتتطلع إلى التحديات الاقتصادية في آسيا. وقد أتى ذلك لكي يعبّر عن عجز فعلي في إدارة التوازن بين المقلبين الباسيفيكي والشرق أوسطي، فالتركيز على الأوّل كان يعني إهمالاً للثاني. وقد دلّت النتائج على ذلك بحيث شكّل الذهاب إلى الباسيفيك فرصة ذهبية بالنسبة لإيران لابتزاز إدارة أوباما وصولاً إلى انتزاعها التكليف والشراكة الفعلية في ما سمي لاحقاً بالحرب على الإرهاب وإبرام الاتفاق النووي عام 2015. ومن ناحية ثانية، أدى أيضاً إلى مهادنة روسيا مما ساعدها على التمدّد إلى أوكرانيا وسورية والبحر المتوسط.

إدارة الظهر تلك قامت على فلسفة ركّزت على الانخراط في آسيا واحتواء الصين باعتبارها التحدي الأبرز في الألفية الثالثة، وتعاملت مع نظام بيونغ يانغ باعتباره من حصة الصين وروسيا.

التوجّه المتوازي والاستراتيجي للولايات المتحدة في إدارة ملفين نووين في الوقت نفسه، قد يفجران حروباً أو يتم حلّهما، يضع التوازن الدولي أمام وقائع جديدة وينعكس على موقع روسيا وعلى تمدد إيران في المنطقة.

بالنسبة لروسيا، دخولها في أجواء المونديال مبكراً يدفعها إلى التفاعل إيجابياً مع القضايا الدولية بشكل عام. الدرس المستخلص من أزمة الجاسوس المزدوج مع إنكلترا، التي كادت تطيح بالمونديال، يمنع روسيا من تأجيج أي ملف آخر يمكن أن يضعها في مواجهة مع المجتمع الدولي، إضافة إلى أن ارتفاع أسعار النفط وتقلُّص صادرات إيران النفطية يعوّضان لروسيا عن الأثار السلبية للعقوبات المأخوذة بحقها منذ أزمة القرم. الوتيرة التي تحكم الأداء الروسي في التوازن الدولي حالياً أصبحت أكثر هدوءاً وتعكس انضباطاً يُرضي الأميركيين إلى حد بعيد، وينعكس هذا الهدوء على المصطلحات التي يرددونها في صراعهم التقليدي مع الغرب، ما عاد الروس يتحدثون عن «عالم ما بعد الغرب» أو سباق تسلح أو الدخول في حرب باردة جديدة. إضافة إلى أن انشغال إدارة ترامب المُحافِظة بإيران يعطي الروس فسحة لمراقبة أعمق تكون أولويتها إبعاد شهيّة الصقور في إدارة ترامب من العبث بالجوار المحيط بروسيا. أضف إلى هذا كلّه «التفاهمات» التي ظهرت بعد زيارة نتانياهو موسكو وحضوره فعاليات ذكرى الانتصار على النازية.

طبعاً تحييد روسيا يشكل مناسبة مثالية لتفرّغ الإدارة الأميركية لاحتواء إيران أو على الأقل إعادة ترتيب واقعها الإقليمي، وما يعزز الحاجة إلى إعادة الترتيب تلك هو مجمل التحولات الداخلية في الدول التي استباحتها إيران وتتلازم هذه المرّة مع تحولات في الداخل الإيراني. الإيرانيون لم يلمسوا أي فارق يُحسّن أوضاعهم المعيشية بعد رفع العقوبات عنهم عام 2015، وتفاقمت عزلتهم الخارجية بسبب تدخلاتهم في المنطقة والجوار، حتى في العراق فقد تسبّبت إدارتهم بشرخ في البيئة الشيعية.

لكن، هل يُوفّر هذا التوازن فرصة جيدة لتخفيف التوتر في المنطقة؟ لقد أوصلت الحرب السورية المنخرطين فيها إلى حال من المراوحة وانسداد الأفق، والعبرة تكمن في أن إيران «جلبت الدب الروسي إلى كرمها» في سورية لإنقاذ الأسد ومن دون التفاهم على النهايات! وتشهد الساحة السورية حالياً النتائج والترجمات السياسية لضربة ترامب الثانية، مع حلفائه الإنكليز والفرنسيين، عقب استخدام الكيماوي في دوما. كلفة الحضور الإيراني في سورية ترتفع والمتضررون من مشروعها هناك يتزايدون بانضمام روسيا ودعوتها إلى انسحاب القوى الأجنبية. الحفاظ على النظام شكّل الهدف الاستراتيجي لإيران، ليس حباً بالأسد بل رغبةً في أن تؤمّن التواصل الجغرافي بين المركز والأطراف، وأن توجد على حدود إسرائيل بعد أن أضحت سورية الساحة الوحيدة للضغط عليها، ومن دون تحقّق ذلك لا مصلحة استراتيجية لإيران في سورية، بخاصة أنه لا امتيازات تحفظ للإيرانيين وجوداً مستداماً إلا إذا تلازم ذلك مع حضورهم العسكري المباشر. المُستجد أن المناطق العلوية أصبحت روسيّة الهوى والأهم هو أن عجز إيران عن نجدة الحوثيين في اليمن يشخص كنموذج أمام عموم أذرعها في المنطقة.

بالعودة إلى ما سلف، فقد أصبح بالإمكان تحديد التوجهات الاستراتيجية لإدارة ترامب بعدما اكتملت تشكيلة الإدارة أخيراً ورسا الانسجام في التوجهات بين أفرادها. وما يستدعي التوقف عنده أيضاً هو التوجّه الكولونيالي الذي أصبح أكثر وضوحاً. ففشل الاتحاد الأوروبي بحماية مصالح شركاته الحيوية العاملة بإيران يُرضي طموح ترامب في حيازة السوق الإيرانية لاحقاً وفقاً لشروطه. والتطلع إلى كوريا الشمالية كسوق لم يغب عن بال ترامب، إذ أخذ الشق الاقتصادي وتحديث القطاعات الحيوية من خلال استثمارات أميركية حيزاً كبيراً في الحوارات التي خاضها مايك بومبيو مع كيم جونغ أون في زيارتيه إلى بيونغ يانغ.

بالنتيجة، فإن العودة إلى التركيز المتـــوازي على الباسيفيك والشرق الأوسـط تطلق استراتيجية أميركية متعــــددة الجـــانب تجاه إيران، لا شك ستطبع الأداء الأميركي حتى انتهاء الولاية الأولى لترامب على الأقل.