قصة بيت صغير/ بقلم سلوى صافي

لم أتأكّد من الأمر قبل الدخول إلى الغرفة، ورؤية الأوراق مبعثرة في أرجائها. سمعت إنهم سيرحلون ولكن ليس بهذه العجلة. لم تمض بضعة أيّام على امتحانات نهاية السنة المدرسية. كم كانت تعاني من تعب شديد، أخبرتني على الهاتف. ثلاثة من الأولاد تقدموا لشهادات مختلفة وسافروا قبل تلقي النتائج.

ثلاثة وأربعون طالباً تقاسموا لسنة مدرسية كاملة. في المدرسة عاملة، وفي البيت عاملة، وعاملة في دقائق الفراغ. لم يعد الموضوع يُطاق، أخبرتني سراً على الهاتف فحالة النسيان تقتحمها مراراً في يوم واحد. ألم كلسات الأولاد عن الشريط واضيّع المكان الذي وضعتها به يسألونني عن أشيائهم فلا أجيب لأنني أعجز تماماً عن الرد.

نصحتني احدى الزميلات باللجوء إلى طبيب مختص بالأعصاب، أعرف في قرارة نفسي أنني بحاجة كُليّة لراحة تامة. يقول لي الأولاد، لنوفر جميعاً أجر خادمة تقوم عنك بأعمال البيت. لم نستطع التوفير وإن حدث ذلك فعلى حساب الطعام والكتب.

كانت تسافر من وقت إلى آخر لتمضية العطلة المدرسية لدى صديقة لها في البلدان العربية. رأيتها بعد عودتها تجر عربة حاجيات منزلية في إحدى التعاونيات، كان ذلك في فصل الشتاء الفائت هتفت دنيا يا أحلى اخت في الدنيا كأنني أعثر عليك من جديد، وعندما عانقتها اغرورقت عينيا بالدموع وأنا أردد بحق الله قولي لي أين كنت وصلني أنك تسافرين إلى كندا من وقت إلى آخر، فرحت لأن سفرك جعلني أطمئن إلى مدى راحتك.

هي الاخرى “دمعت” وهي تعترف بأنها تسافر من أجل الحصول على بطاقة الهجرة إلى الأبد.

تقطعين شعرة معاوية وأهلك والأصحاب والوطن والدنيا وأنا. أجابتني بأنها شبعت من عواطف الجميع وهي لترد جميل الوطن عليها تهاجره لتشعر بجماله والحنين إليه عن بعد. فقيمة الشيء لا تبرز إلاّ بالبعاد، وأضافت إن الحياة شغلتها بما فيه الكفاية. فمهنة التعليم المقدسة قد تطعم خبزاً ولكنها لا تربي وطناً مر فيها ضمن وطن كبير.

فالبيوت أوطان صغيرة، واللبناني مطعون بأمنيات كبار ان لم ينفذها يطق وينشف دمه.

كانت تتوق إلى بناء بيت صغير تحيط به حديقة مليئة بالأزهار أو تريد اقتناء أكثر من سيارة واحدة وتكره استخدام السيارات المستعملة تقول: نحن لم نخلق لترويج بضاعة الذين يستغنون عن بضائعهم.

قرأت أرقاماً حسابية تحت عناوين راتب، عائلي خاص، تقاعد، دخل، تعاونيه طوابع، وعلى قصاصات من الأوراق قرأت نتفاً من رسائل موجهة إلى الأولاد تتضمن قضاء حوائج أو القيام بمهمات.

“باسل اشترى كيلو بندورة ونصف كيلو حامض وضمة بقدونس، حسب الدراهم الموجودة على الطاولة في غرفة الجلوس. دق التوم مع الملح واعصر نصف حامضة وامزج الفاصوليا المسلوقة من دون اضافة أي قدر من الماء، قطّع البقدونس وانثره على الوجه. وعلى الورقة ذاتها هذه الملاحظة للأولاد سأعود في الخامسة والنصف مساءً، وعلى ورقة أخرى هذه الرسالة الموجهة إلى الزوج، حبيبي هذا آخر يوم لي في المراقبة. أكون معك في السادسة مساءً، وإن لم اصل على الوقت فالذنب ليس ذنبي بل لاجتماع طارئ لدى لجنة التفتيش أو عرقلة في السير أو لأحرقصك لتشتاق إلي أكثر.

وعثرت على إحدى القصاصات: سأمرّ على التعاونيه لابتياع هدية لها. اعد قراءة البطاقة العرس يوم ام غداً.

وفي إحدى الأوراق تطلب من احد الأولاد طي الغسيل وجلي الصحون. تطلب بكلام رقيق ورجاء لا يرد.

قم بدوري يا ماما فإن فعلت لك قبلة في المساء.

وهذا التعميم وجدته بعد ما ازلت الكتابات والأرقام المرشوشة على جوانبه.

وزراة التربية الوطنية والفنون الجميلة

تعميم رقم 99/91

“ان وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة. ايمانا منه بأن نجاح الامتحانات الرسمية كفيل بإعادة الشهادة اللبنانية إلى مستواها المعروف، وان نجاح هذه الامتحانات يتوقف في قسم كبير منه على مراقبة ضميرية ومسؤولية لهذه الامتحانات أو ان هذه المراقبة هي جزء أساسي من مسؤولية أفراد الهيئة التعليمية لذا يطلب وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة من جميع أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الرسمية تلبية دعوة مراقبة الامتحانات الرسمية التي ستجري اعتباراً من 25/7/91 وذلك بروح عالية من المسؤولية التربوية التعليمية والوطنية مذكراً بأنه لن يتردد مطلقاً في اتخاذ أقصى العقوبات بحق المتخلفين فهم أو المترددين مهما كانت اعذارهم”.

(الانباء)