عوامل الإرتباط بين الإنتماء للبنان والنهج العروبي والإنساني عند كمال جنبلاط

د. كليب كليب

قبل واحد وأربعين عامًا غادرنا القائد السياسي والمفكر كمال جنبلاط تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًا عظيمًا يتمثّل بما يقارب المائتي ألف صفحة مكتوبة في مختلف مجالات الأدب والفلسفة والتصوّف والعلوم والطب والفلك والممارسة السياسية… وغير ذلك.

نقطة الدائرة في فكر كمال جنبلاط، اللامحدود والمتنوع في وحدته، هي إيمانه بوحدة الوجود (المادي والروحي) في الكون، لذا اعتمد منطق وحدة المتضادات منهجًا له في التحليل والتحقق وفي السلوك الشخصي أيضًا (المادة والروح- الظاهر والباطن- اللطيف والكثيف- العلم والدين- السياسة والأخلاق- النظرية والممارسة.. وغير ذلك من متضادات).

وإنطلاقًا من تأكيده على أحاديّة المطلق أي الله، ينتقل كمال جنبلاط للتأكيد على وحدة الجوهر في الأديان التي تهدف في حقيقتها إلى الوصول إلى هذه الحقيقة المطلقة أي الله، والتأكيد بالتالي على فكرة  توحيده للإنسان الذي هو في نظره ليس إلا امتدادًا لهذا الإله وتكاثرًا له. والإنسان الذي أراده كمال جنبلاط هو الإنسان المتطوّر المترقّي، المتدرّج في ترفعّه من مستوى الدوحة الحيوانية إلى المرحلة الإنسانية العليا أو المرحلة الإلهية.

وبهدف الوصول إلى الإنسان الجديد والمجتمع الجديد طرح كمال جنبلاط طريقًا يتمثل بالإشتراكية كمشروع متطوّر يتعدّل باستمرار، فأولى أهمية خاصة للوعي الذي رأى فيه فعل حرية وسبيلاً للترقّي بعيدًا عن كل تعصّب وصولاً إلى إنسانية متحضّرة متضامنة ومتعاونة.

لذا اعتبر كمال جنبلاط الوعي شرطًا للحرية التي قدّمها على كل ما عداها من مفاهيم ففي شعار الحزب مثلاً قدّم مفهوم الحرية على مفهومي الإشتراكية والعروبة وفي إسم الحزب قدّم مفهوم التقدمية، وهي الأخذ الدائم بنتاج العلم والتطور، على مفهوم الإشتراكية فيصبح الحزب حسب رأيه ليس مؤسسة أو مفهومًا جامدًا بل وجهة نظر في الحياة على إطلاقها تتطوّر من ضمن مسار التطور الفكري الدائم.

على ضوء هذه الرؤية الشاملة صاغ كمال جنبلاط آراءه واتخذ مواقفه في الحياة ومنها تلك التي تتعلق بالقضايا اللبنانية والعربية والعالمية على حدٍّ سواء.

فعلى الصعيد اللبناني وبفعل فهمه العميق للتاريخ ووعيه لتراث اللبنانيين الفكري والروحي والسياسي سعى إلى تطوير البنية الإجتماعية في لبنان من منظور يكفل الأصالة والتجدّد معًا. كما صاغ تصورًا متكاملاً وتقدميًا للعلاقات اللبنانية العربية يحفظ خصوصية لبنان وتنوّع تركيبته السكانية ويؤكد إنتماء لبنان العربي في آن واحد. وهذا التصوّر كان يتناغم في الواقع مع رأي غالبية اللبنانيين وقواهم السياسية الذين كانوا يتخذون موقفًا وسطيًا بين مشروعين متنافرين، أحدهما كان يدعو إلى الإنعزال عن العروبة بينما يتنكّر الآخر لاستقلال لبنان ويدعو إلى إدماجه ضمن وحدة سياسية أكبر (سورية أو عربية).

استمد كمال جنبلاط نزعته الوطنية اللبنانية من تراث آل جنبلاط الذين بقوا على درجة كبيرة من الولاء للكيان اللبناني منذ إنتقالهم إلى لبنان في مطلع القرن السابع عشر ومن تراث الموحّدين الدروز الذين يرتبطون دائمًا بالأرض التي يعيشون عليها وبتأثير نسبي من فكر الإرساليات اليسوعية حيث تلقّى علومه، ونزعته الصوفية وجمال البيئة المكانية التي كان يعيش فيها. ولقد تعزّزت نزعته الوطنية اللبنانية مع الوقت نتيجة عشقه لمناخ الحرية التي نعم بها لبنان نسبيًا وخشيته من استبداد الأنظمة الشمولية والعسكرية في المنطقة العربية والتي كان يسميها بالسجن الكبير.

وعلى الصعيد العربي، كان كمال جنبلاط مقتنعًا بأنّ لا إمكانية لتحقيق الإشتراكية في العالم العربي دون تعميم قيم الديمقراطية وتوفير حدٍّ مقبول من التعاون بين العرب، لذا كان يجوب البلدان العربية يقدِّم أفكاره الإصلاحية ومشاريع إحياء التراث العربي ويعقد المصالحات بين الدول المتخاصمة أو بين الأنظمة والشعوب أو بين مكونات الدولة الواحدة (العراق واليمن على سبيل المثال) داعيًا إلى تحقيق التكامل بين الدول العربية ومساعدة بلدان المواجهة مع إسرائيل واستخدام سلاح النفط في المعركة منتقدًا مظاهر التخلف والتعثر المستمر لمسيرة التضامن العربي وتذبذب السياسة العربية الخارجية وضعف الوحدة الوطنية في البلدان العربية والإنخراط في الأحلاف الأجنبية وسياسة المحاور وانتشار الأمية وغياب حكم القانون وانعدام الضمانات الأساسية لحريات الأفراد أو إشتراكهم في الحياة العامة.

وعلى مستوى الممارسة لم يتردّد كمال جنبلاط في إطلاق الدعوة إلى الكفاح المسلح لاسترجاع فلسطين في إجتماع دعا إليه الأحزاب الاشتراكية العربية في العام 1951 قبل أن يعلن عن استعداده لإرسال متطوعين إلى الجمهورية العربية المتحدة للمساهمة في التصدّي للعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 ليصل فيما بعد إلى ترؤس الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية في العام 1973 والتي ضمّت أكثر من 40 حزباً عربياً.

أما على الصعيد العالمي، فتطبيقاً لمضامين فلسفته السياسية ذات الأبعاد العالمية ونزعته الروحية وثقافته الموسوعية ونهجه التقدمي، إختار كمال جنبلاط خط التحالف مع القوى التقدمية وحركات التحرّر في العالم في حربها ضد الإستعمار والإمبريالية. وإذا كان يعتبر أنّ هذا التضامن العالمي لا يخلو من عوامل التناقض والإختلاف بسبب تناقض المصالح الوطنية أحيانًا فقد أعتبر أنّ لا بدّ من التشاور الدائم حول ذلك، والتفاعل المخلص ضمن حدود الإستقلال والإحترام المتبادل.

كان كمال جنبلاط شخصية مركّبة ثلاثية الأبعاد، فلقد كان وطنيًا لبنانيًا حقيقيًا وعربيًا صادق الإنتماء للعروبة وأمميًا بإمتياز في آن واحد، ولقد كان في سلوكه السياسي اليومي يُعنى بشكل تفصيلي نسبياً بشؤون الوطن الصغير لبنان كما بشؤون البلدان العربية والعالم أجمع.

ولقد ناضل طيلة حياته من أجل قضايا لبنان والعرب والعالم، فهو لطالما نسج أفضل علاقات الإنسجام والتناغم بين ما هو وطني وما هو عربي وإنساني. وتصرّف كما لو أن واحدة من مهماته الأساسية كانت تقضي بتجميل صورة لبنان في عيون العرب وإقناعهم بمدى حاجتهم إليه كدولة وككيان وإقناع فريق من اللبنانيين بالمقابل بأهمية الإنفتاح على الدول العربية والتعاون معها. كما خدم قضايا العرب الكبرى وفي طليعتها القضية الفلسطينية ولعب دوراً اساسياً في تحسين صورة العرب في المحافل الدولية بالإضافة الى كفاحه المستمر من أجل قضايا التحرر والسلم العالمي.

من ناحية أخرى لقد صان كمال جنبلاط بكفاحه وحدة لبنان وأمنّ لها التوازن المطلوب لاستمرارها حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين، فقد كانت له اليد الطولي في إقرار الإصلاحات الإدارية والسياسية خاصة خلال العهد الشهابي. كما عمل على تعزيز علاقات لبنان مع الدول العربية خاصة مع مصر لقناعته بأهمية دورها في حماية استقلال لبنان واستقراره الداخلي.

حمل كمال جنبلاط مشروعاً تغييرياً نهضوياً للبنان والمنطقة العربية والعالم، إلا أن خصومه من اللبنانيين لم يفهموا حقيقة نواياه ومقاصده فخاصموه.

أما خصوم كمال جنبلاط الإقليميين فقد فهموا جيداً حقيقة مراميه وأهدافه ومدى الخطر الذي تشكله على مشاريعهم ومصالحهم فتصرفوا معه على هذا الأساس.

يا صاحب الذكرى… نفتقدك… إنّك حقًّا لإنسانٌ أعلى…

خاص- “الأنباء”