طلب لنهاد طربيه من المختارة… وهكذا كان الجواب

قبل الحديث عن زيارة الفنان الراحل نهاد طربية الى المختارة واللقاء الذي جمعه برئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط، لا بد من الإقرار أن خسارة لبنان والعالم العربي بهذا الفنان الكبير وإنضمامه الى من سبقه من الكبار كان فاجعة كبيرة ليس على عائلته وأسرته الفنية فحسب بل على جمهوره العريض المنتشر على مساحة العالم كله. لأن نهاد لم يقعده المرض ولم تحجبه الشيخوخة عن محبيه فلقد كبى حصانه وهو في أوج عزه وعطائه. وبوداعه الى مثواه الأخير في بلدته صوفر محاطاً بمحبيه وعشاق صوته، وبزملائه وأصدقائة الفنانين والإعلاميين وبجمهور المشيعين الذين توافدوا لوداعه. تطوى صفحة ذهبية ومشعة من حياة فنان ينتمي الى جيل العمالقة، أحب فنه وأعطاه الكثير من إبداعه وإحساسه وروحه، فسما به الفن الى أرقى درجات الرفعة والسؤدد، وجعله يحفر عميقاً في قلوب وعقول محببيه وعشاق صوته، فزادوا تعلقاً به، وزاد حباً لهم. فمن هذا الإنصهار الروحي المفعم بالموسيقى والشجن بين مطرب وجمهوره كان هذا الوداع المؤثر لفنان شامخ كالأرز نقي كالضمير.

ما أعرفه عن الفنان نهاد طربيه أن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي كان دائماً يصطاف في لبنان هو وكوكب الشرق السيدة أم كلثوم في صوفر وبحمدون، لما سمع بصوته أسبغ عليه لقب مطرب الجبل الأشم، هذا اللقب أحبه نهاد وتفاخر به طوال مشوار حياته الزاخرة بالعطاءات الفنية الناجحة، لأن نهاد كان فخوراً بإنتمائه الى الجبل والى أهله وناسه، وفخوراً أيضاً أن يكون مطربه وصوته الشجي المليء عذوبة ورقة وحناناً. وما بين الموسيقار فريد الأطرش ونهاد طربيه حكاية حب عشق سرمدي لا يمكن أن يمحوها الزمن وسيظل صوت نهاد يصدح بأغاني فريد الى آخر الزمن. فكان يعيش في كل نبضة من نبضات قلبه المعطاء.

في العلاقة مع الفنان تعرفت الى نهاد طربيه وترسخت بيننا منذ أوائل التسعينيات حكاية صداقة متينة تجاوزت حدود العلاقة بين إعلامي وفنان الى ما هو أرقى واسمى، فدستور الصداقة كما هو معروف شفاف جداً وغالباً ما تستحيل الى مرايا يصعب لمسها وإدراك كنهها إلا بالضمير والوجدان. يومها كان الصديق نهاد في أوج عطائه الفني، غزير الإنتاج، كثير الأسفار، لم يعر الصحافة الفنية إهتمامه ما عدا قلة من المجلات التي تربطه بأصحابها علاقة خاصة، وهو ما عرّضه للإنتقاد ولبعض التجني، وكنت أعالج هذا الموضوع على طريقتي حتى استقامت الأمور وأصبحت أخبار نهاد تملأ المجلات والصحف.

ومن المفارقات الحلوة في شخصية نهاد طربيه أنه لا يمكن أن يحيي مهرجاناً أو حفلة فنية في أي بلدة من لبنان قبل التعرف الى أعيانها ووجهائها وبعدها تسهل عليه كل الأمور. في أحدى اللقاءات الخاصة التي كانت تجمعني به، أخبرني عما يجول في خاطره بعد موافقته على إحياء مهرجان بعقلين في الملعب الأخضر، ولكنه يريد قبل كل شيء أن يزورالمختارة وأخذ البركة من وليد بك قبل أي شيء آخر. ولن يحضر الى الشوف ما لم يتأمن له ذلك، وطلب مني أن أتدبر الأمر بأي طريقة. في نهاية الإسبوع قصدت المختارة كالعادة، وكان القصر يعج بالزوار فإنتظرت حتى انتهى “البيك” من اللقاءات والإستقبالات ومن سيل المراجعات، وعندما شعرت أن بإمكاني إيصال الرسالة، إقتربت منه وأفصحت له عن رغبة الفنان نهاد طربيه بزيارته، وعن شرطه بالنسبة لمهرجان بعقلين، فضحك وأجابني على الفور: من يمنعه من ذلك؟ فليأتي ساعة يشاء أبواب القصر مفتوحة لكل الناس، فشكرته وهممت بالخروج فناداني وقال لي: بلّغه أن يأتي يوم الجمعة حتى يكون لدي بعض الوقت للتحادث معه، وهكذا كان. إتصلت بالصديق نهاد وأبلغته جواب “البيك” فسرّ جداً لهذا الخبر السعيد.

وقبل المهرجان بيوم واحد وكان نهار جمعة زار الفنان نهاد طربيه وأشقاءه قصر المختارة لسؤال خاطر البيك كما كان يرغب، وكانت زيارة من العمر استمرت حوالي الساعة من الوقت وكان الحديث شيقاً وبعيداً عن السياسة، بقي فناننا الصديق يردد على مسامعي أن هذا اللقاء فتح له أبواب الحظ. وفي تلك الفترة كرت سبحة حفلات نهاد في الشوف، فبعد مهرجان الملعب الأخضر الكبير، كان مهرجان مونتي كفرا وبتلون والمختارة، هذا بالإضافة الى حفلاته في عاليه وبحمدون وفي كل لبنان. وعلى وقع أغنية “لبنان يا حبنا” و”أنا لبناني”، بصوت الراحل الكبير أمتزج التصفيق مع الدموع بعد الصلاة عن روحه الطاهرة، وإنتهى مشوار مطرب الجبل الأشمّ.

الأنباء – صبحي الدبيسي