تغييرات في نمط العلاقات الدولية

د. ناصر زيدان (الخليج الاماراتية)

يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق السير ونستون تشرشل: «إن العالم ساحة صراع يتزاحم فيه الماضي مع المستقبل». والعلاقات الدولية كانت شكلاً من أشكال التزاحُم بين الدول على تحقيق المصالح، وآليات التعاون أو الاختلاف تأخذ من الماضي المتوارث، ولا تستطيع تجاهل المُستجد، أو الذي يؤسِّس للمستقبل. وإذا كُنا قد اعتقدنا أن الدول كينونات واقعية، وتصورناها شخصيات متشابهة ومنفصلة، فإن تطور حركة التاريخ، وسياق الأحداث، أثبتت أن هذه الصورة للدول غير واقعية، والعلاقات بين الدول لا تُشبِه العلاقات بين الأشخاص الطبيعيين، وغالباً ما كان ممثلو الدولة؛ لا يشبهون الدولة، من حيث هي كيان مؤلف من أرض وشعب وسلطة.
لكن العلاقات بين الدول تطورت كما تطورت العلاقات بين الأفراد، وما كان يَصلُح في إطار التبادلات البشرية – أو بين البشر- منذ سنوات مضت، لم يَعُد صالحاً ليومنا هذا. فقد تغيرت وسائل التواصل بين الناس، وتبدَّلت طرُق المُبادلات بينهم تماشياً مع التطور الذي حصل على مستوى وسائل الاتصال والنقل ووسائل الملكية والذمم المالية. وعلى ذات المنوال تطورت العلاقات بين الدول، وتجاوزت في بعض محدداتها وأعرافها المفاهيم التقليدية التي كانت سائدة، بما في ذلك القواعد التي أرستها معاهدة وستفاليا للعام 1648، خصوصاً لناحية اعتبارات السيادة، ولناحية مفهوم الاستقلال، وفي مقاربة مفهوم «سلطان الدولة» على الشأن الداخلي فيها.
وقد تحوَّلت صيغة التمثيل الدبلوماسي، أو ما يمكن تسميته «تبادُل الرسائل الدبلوماسية» إلى إطار مختلف تماماً عن النمطية التقليدية التي كانت مُعتمدة، بصرف النظر عن الشكليات التي نصَّت عليها معاهدة العام 1962، وما تضمنته من قواعد ومحددات ترعى العلاقات الدبلوماسية بين الدول. وتكاد تكون الحصانات، وحقوق أفراد البعثات الدبلوماسية؛ هي وحدها الثابتة، بينما تغيرت شكليات الأداء الدبلوماسي ومضمونه بالكامل، بحيث توسَّعت مهام البعثات أُفقياً في مجالاتٍ معينة، وتقلَّصت في مجالاتٍ أُخرى، كما أن الحاجة انتفت لبعض البعثات، لأن التواصل المباشر – بين قادة الدول، أو بين وزراء الخارجية، أو بين وزراء مُختصين – توسَّع إلى حدودٍ بعيدة، وغالباً ما يتم تجاوز موقع السفير في التعبير عن الموقف لصالح دور الوزراء المختصين والمستشارين، أو المبعوثين الرئاسيين.
وفي الفترة القصيرة الماضية، برزت دبلوماسية «التغريدات الإلكترونية» عبر استخدام نظام «تويتر» إلى واجهة الأحداث، وأصبح السفير الذي يمثل دولته عند دولة أُخرى، يتلقى موقف دولته بواسطة مضمون هذه التغريدات، كما يتلقاها مسؤولو الدولة الأُخرى، أو عامة المواطنين. وهذه النمطية كبَّلت العمل الدبلوماسي في بعض جوانبه – خصوصاً لناحية التعبير عن موقف الدولة الموفدة للمندوب – لأن رئيس دولته يمكن أن يُدلي بتصريح عبر تغريدة، قد تقلب موقف دولته من قضية ما، رأساً على عقب. ومثال على ذلك ما حصل بين الولايات المتحدة وروسيا في أغسطس/ آب 2017، حيث تمَّ طرد عدد كبير من الدبلوماسيين من البلدين وفقاً لقاعدة التعامل بالمثل، من دون أن يكون أغلبية هؤلاء الدبلوماسيين على علم بما جرى بين مسؤولي البلدين، حيث تفاقمت الأزمة بينهما جراء تغريدة من رئيس إحدى الدولتين، لم تلقَ الرضى عند رئيس الدولة الأخرى.
ومن مؤشرات تغيير النمطية في العلاقات الدولية، عودة تأثير عامل القوة العسكرية أكثر فأكثر إلى الساحة، ذلك بعد أن تقلَّص هذا العامل بعض الشيء خلال العشرين عاماً المنصرمة، لمصلحة زيادة تأثير القوى الاقتصادية والتأثير المالي والتكنولوجي. ومن الأمثلة على هذه المقاربة، ما يحصل في أقصى شرق آسيا، خصوصاً في الانفلات النووي لدى كوريا الشمالية، والتهديدات المتبادلة حول هذه المسألة، كما أن المناورات المشتركة بين روسيا والصين التي تحصل في بحر الصين الجنوبي تأتي في ذات السياق، والمثال الأوضح على هذه الرؤية – أي زيادة تأثير عامل القوة العسكرية – هو موافقة الكونجرس الأمريكي على زيادة الإنفاق العسكري إلى ما يزيد عن 700 بليون دولار، وهو رقم قياسي لم تصل إليه ميزانية الدفاع الأمريكية في تاريخها.
والعامل الآخر الذي يؤكد حصول تبدلات واسعة في نمطية العلاقات بين الدول – لا سيما بين الدول الكبيرة والدول الصغيرة – هو تراجع مفهوم السيادة، وانخفاض منسوب تأثير مفهوم الدولة الوطنية لصالح مفهوم تفككي، ما شجع على التدخُلات الخارجية في شؤون دول مُستقلة، وأدى هذا الأمر إلى تراجع مستوى التماسك الوطني في بعض الدول، وإلى اندلاع حروب داخلية كما ساعد في تنامي ظاهرة المنظمات الإرهابية في بعض الدول، وتمادي بعضها الآخر في تهديد وحدة الدولة.
أما مفهوم الحدود الوطنية، فلم يعُد كما كان عليه الحال في مرحلة الثنائية القطبية وما بعدها، بل إن هذا الفهم: تمدد بالاتجاه الإيجابي في بعض الأماكن – كما في الاتحاد الأوروبي – وتقلَّص إلى الحدود الدُنيا في أماكن أُخرى، خصوصاً عند بعض الدول العربية التي حصلت فيها اضطرابات، كالعراق وسوريا واليمن وليبيا.
وقد أدت الاستباحات الإلكترونية إلى أزمات اقتصادية ومالية متعددة في أكثر من دولة، كما أن الشائعات التي يمكن أن تحملها وسائل التواصل الحديثة، تُنذر بتفاقُم أزمة عدم الثقة بين الدول. وما رافق الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي حصلت في خريف 2016، كان دليلاً على تلك الرؤية.
غالباً ما تقف أطقُم البعثات الدبلوماسية عاجزة عن التعامل مع المقاربات الجديدة الدخيلة على سياق العلاقات بين الدول، ولا سيما الكبرى منها.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الاماراتية)

قمة اللقاءات الجانبية

إشكالية تعطيل الحكومة اللبنانية

أفغانستان والديمقراطية والتفجيرات

صعوبات جديدة أمام السياسة الروسية

روسيا وألمانيا والمصالح الاستراتيجية

الاتحاد الأوروبي وملفات المنطقة

قمة هلسنكي والمخاوف الأوروبية

مستقبل لبنان بعد الانتخابات النيابية

الإعلان العربي لحقوق النساء من ذوي الإعاقة

الانتخابات الإيطالية وضباب القارة الأوروبية

الأسبوع الآسيوي – الأميركي

في حجم تأثير الأوهام السياسية

إعادة خلط الأوراق في بلاد الشام

الأسرى الفلسطينيون والجرائم الدولية الموصوفة

العدالة الدولية عندما تصطدم بالسياسة

أسئلة بمناسبة ستينية الاتحاد الأوروبي

ميونيخ 2017: مؤشرات مُختلفة

حراك من نوع آخر في شرق المتوسط

عن تطور العلاقات السعودية – الصينية

قراءة هادئة في نتائج الاستفتاء البريطاني