“الأنباء”: هذا ما قاله كمال جنبلاط في مهرجان شهداء الباروك في العام 1953

بالتزامن مع ذكرى شهداء الحزب التقدمي الاشتراكي في 13 آب، تعيد “الأنباء” نشر خطاب المؤسس الشهيد كمال جنبلاط في مهرجان شهداء الباروك وعيد تأسيس الحزب في العام 1953 وجاء فيه:

“أيّها الرفاق، أيّها الإخوان،

إنَّنا إذ نلتقي، في هذا اليوم، لنجدّد الولاء لشعب ولقضيّة، ولنستجلي ولنعزّز نضالاً ظافرًا توّحد في ما يرمز إليه العمّال والشهداء والحزب، يتوجّب علينا كالملاح وسط البحار، أن نرتدّ إلى الوراء وأن  نستوضح الحاضر الذي نحن فيه، وأن يمتدّ بنا البصر إلى ما سنكون عليه في المستقبل من الأحداث والأيّام.

أمَّا من حيث الانتشار والتعبئة والفاعلية المؤثّرة في حياة الشعب، الموجّهة لمصير الوطن، والمنيرة سبيل الخلاص للشعوب الشقيقة والمجاورة، فمن البديهي أنَّ الحزب التقدّمي الاشتراكي نما وتعمّمت مبادؤه بسرعة مدهشة، حاربها الأنصار والأصدقاء والخصوم على حدّ سواء، وتنبّهت لها الأوساط الدولية القائمة بيننا والبعيدة عنّا وهي الدليل – إن كان لا يزال هناك حاجّة لدليل لبعض المتأخّرين بأفكارهم في ليبرالية القرن التاسع عشر – على أنَّ الاشتراكية قد دنت ساعتها في لبنان، وإنَّنا على قاب قوسين من حصول الانقلاب الاجتماعي الشامل، لجميع عناصر هذا الوطن، والذي سيجعل العمّال والفلاّحين والمهنيين ورجال الفكر والوطنيين المخلصين، إلى أيّة فئة انتسبوا، الموجّهين لدفّة الدولة ولمصير الشعب في لبنان.

فعلى الرغم من المعاكسات الظاهرة والخفيّة، وعلى الرغم من مناهضة بعض الدول الأجنبية الاستعمارية وتأثيرها المستمرّ في توجيه الحكم في هذا البلد – وهي لا يروق لها أن تشهد في هذه الأصقاع ما تغتبط لحصوله في بلادها، فالحقّ بالنسبة إليها حقّان، والكيل كيلان، والشعب شعبان – فلا نزال، كما قال عنّا مسؤول، كمن  يهبط بالمظلاّت في مختلف المناطق اللبنانية، أو قل – إذا كان لك بعض الخيال – كالطيّارات التي تعتلي طريق “أشعة الشمس” الصاعدة، على حدّ تعبير بعض الكتب المقدّسة، كأنَّها تقفز طبقات الجو قفزًا.

وقد يكون الحزب، تطوّر ونما وكثر، بأسرع ما كان يتوجّب أن ينمو وأن يكثر، وذلك نظرًا لإلحاح الجماهير وعطشهم المتزايد للاشتراكية وللديمقراطية، فأضحت مهمّة التنظيم والدعاية وتفصيل المبادئ وتوضيحها عملاً متعباً حتّى بالنسبة إلى الرفاق منّا الذين تبرّعوا بكلّ ما لديهم من جهد ومن وقت ومن وسائل، ليقوموا بما تفرضه عليهم صلاحيّاتهم الحزبية.

على أنَّه على الرغم من هذا الانتشار الكبير والشامل، بقي علينا أن نربح “المدن” وأصبحت السيطرة في هذه المدن للجماهير الشعبية المناضلة بعد أن تغلغلنا بها فأصبحنا بها قوّة موجّهة فاعلة، وبعد أن أصبحت الجبال والسهول وراءنا وحولنا معاقل لا تدرك ولا تهون ولا تطال.

وإنَّنا نظنّ أنَّه لن ينقضي عام إلاّ ونكون قد أتممنا هذا الانتشار الظافر في “بيروت وطرابلس وصيدا”، وأضحت السيطرة في هذه المدن للجماهير الشعبية المناضلة في سبيل الخبز والعمل والحرّية والعلم والحياة الفاضلة. وإنَّني أعلن، متحدّيًا من يشاء، أنَّ كلّ مناهضة لنا، لن تزيد إلاّ في مدى هذه السيطرة وفي عمق هذا الانتشار، بما توحيه للجماهير من شعور بديهي بأنَّنا قد نكون وحدنا مع بعض المخلصين، نستطيع أن نصلح، وبأنَّنا وحدنا نستطيع أن ننقذ لبنان. ولا إصلاح ولا إنقاذ حقيقي إلاّ بتنفيذ مبادئ الاشتراكية…

وإنَّنا ننظر خاصّة لبعض تصرّفات السلطة بابتسامة مريرة. أمَّا الابتسامة فهي لهذه المحاولات العاجزة والعقبات الهزيلة والأساليب الملوية التي يستخدمونها معنا، باستئثار وتغليف وباطنية يضحك لها العارف. ويكفي أن ينفخ بها الشعب يوماً فتندثر وتتبخّر كأنَّها أماني الحالمين في سحابات من الدخان.

وأمَّا المرارة فلما شاءه الوفاء أن يكون تمامًا عكس الوفاء.

هذا من حيث الانتشار.

أمَّا من حيث التنظيم وبروز الكفاءات، الشيء الواضح ما في السنة التي انصرفت، هو ازدياد إهتمام المسؤولين على تفاوت رتبهم ومسؤوليّتهم بشؤون الحزب، وتوزيع الأعمال في ما بينهم، وانصراف كلّ منهم إلى حقله، وتنسيقهم للسجلاّت المختلفة وتوزيعها على الفروع، وانتظام المراسلات والتقارير والاجتماعات وتسجيل المعاملات وحفظها بشكل عصري، وتنظيم أعمال الدعاية وتنويعها بالنسبة إلى مختلف الفئات الاجتماعية، وتأمين الاتّصال الدائم والإعلام مع جميع الأوساط العربية والأجنبية، وانتظام الرحلات إلى الفروع وجباية المال وسواها من الشؤون التنظيمية التي تبشّرنا بعهد يصبح به الحزب فعلاً وواقعاً، دولة ضمن الدولة. دولة الشعب.

وقد انتسب في هذه السنة الأخيرة عدد كبير من المواطنين الذين تتجلّى فيهم على تنّوعها، مَّما سهّل علينا وسيمكّننا تدريجيَّا وعلى قدر إنتاجهم الحزبي أكثر فأكثر، من اختيار الأفضل منهم لمراكز القيادة في الحزب.

ولا  بدَّ من أن نذكر في هذا الباب، أنَّ العجز في ميزانية الحزب لا يزال هو الدافع الأساسي لجمع المتوجّبات على الأعضاء والتبرّعات منهم ومن الأصدقاء والأنصار. وإلماحنا إلى ذلك يعني أنَّ من شاء الظفر فعليه بسبيل المغامرة البصيرة، ومن شاء الخلاص له ولبلاده ولشعبه، فلا يتوقّف عند بعض المال القليل يهبه طائعًا مختارًا ليتمّ عمل الإنقاذ، وإلاّ يكون أشبه بالعطشان المتهالك الذي يرى النهر أمامه، ولكنّ لشدّة كسله لا يتقدّم ليرتوي من مياهه.

أمَّا من حيث الأعمال الاجتماعية الإيجابية (كالضمان الطبّي البدائي)، فقد توقّف بعضها، نظرًأ للأحداث التي مرّت بها البلاد ولاضطرار الحزب لتحويل المال المرصود لما هو أمسّ وأحوج لمصلحة المواطنين عامّة. ولكن السنة المقبلة ستواجهنا على يد الرفيق مفوّض الشؤون الاجتماعية، (الدكتور كرم) بنظام للتطبيب وللاستشفاء التعاوني، قد يكون على ما نظنّ أفضل ما قام به الحزب، في هذا الاتّجاه.

وأخيراً، لا آخرًا: أمَّا من حيث النهج الحزبي أي التكتيك السياسي النظري والتطبيقي والمستوضح “بالتحدّي المحبّ”، “التحدّي البطولي الخيّر”.

هذه الديالكتية اللاعنيفة الجديدة، المتمّمة للديالكتية الماركسية والتي يتوافق فيها نموّ القوّة المعنوية في الفرد ونموّ الحركة السياسية – واللاعنف في هذا الباب، يعني به الذي لا يقصد منه العنف إلاّ إذا فرض عليه اختيار بين التخاذل والصمود، بين الهرب من المعركة ومواجهة العدوّ، بين الخوف والبطولة، فإذ ذاك يتوجّب العنف ويصحّ لنا أن نقف وأن نحوِّل سير القدر وأن نقْتل وأن نُقتَل.

من حيث هذا المنهج الحزبي وصوابيّته على سواه، فيكفي أن ندلّل على أنَّ الشعب اللبناني في معركة الانقلاب الأخيرة، قد صبغ نضاله بطابع القوّة المعنوية. وقد انتصر المواطنون في أوّل مرحلة من مراحل تحرّرهم وبأسرع ما كانوا يتوقّعون، بفضل تبنّيهم وتكريسهم العملي لهذا النهج. فكان انقلاب فكر وانقلاب قوّة معنوية لم تخفها مظاهر القوّة المادّية، تعرف ما تريد وكيف تريد.

وممّا يغتبط له، أنِّ المسؤولين في الحزب، والأعضاء، أضحوا يؤمنون اليوم بأنَّ حزبهم ليس إصلاحيًّا بالمعنى المبتذل الساذج على طريقة بعض الكتل السياسية في لبنان، بل هو حزب ثوري في روحيّته وفي نهجه وفي أهدافه، وأنًّ الديالكتية اللاعنيفة الجديدة، هي لهم ولسواهم أفضل وأمضى سلاح للاتّصال الساحق الأكيد.

وليس للحزب، والحمدللّه، جمود، وتقلقل كبعض الأحزاب الاشتراكية الغريبة، بل هو حركة ثورية كما قلت بسداها ولحمتها. ولكنّه يبقى علينا أن نتمرّس أكثر فأكثر بأسلوب القوّة المعنوية وأن نتّقن فنون الدعاية والتأثير على الغير، وأن نضاعف النشاط الفردي والجماعي لكسب جماهير العمّال والفلاّحين ورجال الفكر والوطنيين المخلصين إلى أيَّة فئة انتسبوا…

نقف اليوم هذه القمّة الفاصلة بين سفحين منفتحين من حياتنا، يدفع بنا إلى الظفر دفعًا، ماضٍ مشرق يذكيه ويحفزه، على الدوام في وعينا للعلم، نضال مثقل بالتضحيات وبالجهود وبالعناد البصير المكابر وبالصعوبات وبمرارة الخيانات وبطهر الآلام، فإذا بالدنس يتساقط عنّا ومن حولنا كلّما ولجنا الطريق النضير. نقف اليوم لنعلن أنَّنا إرادة لا تغلب، وإنًّنا نطلب ونستجدي من المقبل الباسم، الصعاب والتجارب والآلام والضحايا العديدة التي يجب أن تتساقط على مذبح هذه الساقط على مذبح هذه الدنيا، فندلّ الجهلة والضعفاء منّا على سواء السبيل، وإنَّ السياسة ككلّ عمل بشري وكالدين، ليست في سبيل الآخرين أوّلاً، بل في سبيل تنقية نفوسنا وأجسادنا وبصيرتنا، وأنَّه علينا أن نكون أوفياء في ذلك لِمَن ارتضوا في الباروك أن يموتوا ليكسبوا بزوالهم الحرّية السياسية والديمقراطية لجميع اللبنانيين: حرّية تقرير المصير، حرّيتهم بأن يحكموا أنفسهم بأَنفسُهم. فكانوا الزاوية التي ركّز عليها هذا العهد – ولو حاول اليوم أن يتنكّر لنا ولهم.

وإن أنسى، لا أنسى طيّبة منّا – رفاقًا وأنصارًا – طلب للإقطاعي المجرم السفّاك، أن يمزج دماءهم الزكيّة بتربة “الطيّبة” المباركة فجعل منهم نورًا وحقًّا: نورًا لشحد الإرادة ولهدي أبناء الجنوب بأسره! وحقًّا للشعب صارخًا صريحًا، وللدولة ولنا في ضمير المجرم وفي صدره وعلى يديه…

نقف اليوم على هذه القمّة الفاصلة في صيرورتنا كحزب وكشعب وكوطن وكفكرة وكبشر، لنعلم بعض أهدافنا كما هي.

نقول لرجال الدين منًّا: إنَّ الحزب ليس دينًا وما من أحد منَّا هاد ولا رسول. تلك سخافات الفلاسفة والمستكبرين والرسل الخطاة والأنبياء الكفرة. فليس من شأننا بعث الأديان الجديدة.

فيكفي ما وجد منها، تارة لنشر الفضيلة ولرفعة النفوس، وطورًا لإشاعة الاختلاف والتنوّع بين الناس. فلا يزيد عليها أحدنا من صلبه ما ليس منبعه الوحي والتنوّع بين الناس. فلا يزيد عليها أحدنا من صلبه ما ليس منبعه الوحي الصحيح المتنزّل أو اختيار الذات للذات.

الحزب التقدّمي الاشتراكي ليس دينًا: لأنَّ الدين معتقد روحي، ينظر خاصّة إلى علاقة الإنسان بهذا المعتقد. فهو لاطمئنان النفوس وللدار الآخرة اكثر منه لهذه الدار. وعلى كلّ فالمستوى الذي يُعنَى به ويذكّيه هو أرفع من هذه الدار الدنيا. أمَّا الأحزاب السياسية فهي تنظر إلى الأفراد كاجتماعيين وكمواطني دولة، وليس من شأنها خلق الأديان والتباشير.

على أنَّ موقفنا، هو أقرب لرجل الدين وأضمن لنشر المناقبية التي تتّفق على مضمونها جميع الأديان. فالحزب يعتبر الدين أسًّا جوهريًّا في قيام المجتمع الأسمى ويفسح المجال واسعًا ورحبًا لرجاله كي يقوموا بأعمالهم وينشروا مبادئ الفضيلة.

ونقول لجميع الاشتراكيين، إلى أيّ لون انتسبوا والذين يناضلون في كلّ أنحاء المعمور، في سبيل قصد مشرّف وعدل معمّم ونصرة الفئات الكادحة، ولو كان نهجنا غير ما ينهجون، ولو كانت نظرتنا غير ما ينظرون، ولو كنّا نرى ما لا يرونه بعد، من ضرورة إتمام الاشتراكية الماركسية وتعدّيها واستنباط الأنظمة التي تتّفق أكثر فأكثر مع حركة الإنسان على ضوء التجارب التي حصلت في البلدان الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية على حدّ سواء، وعلى نور حقيقة الإنسان وواقع العلم الحاضر والتاريخ نقول لهم: نحن مثلكم لا طبقيّون، لا رأسماليون، لا إصلاحيون، لا نصفيّون، نهدف إلى تخليص وسائل الإنتاج من التحكّم وإحتكار الأفراد وتسليمها للجماعة.

وقد نلتقي على كثير أو على قليل، ولكن قضيّتنا هي كقضيّتهم: تسليم مقاليد القيادة الاجتماعية والاقتصادية للعمّال وللفلاّحين ولأرباب التعبئة والعلم وللوطنيين المخلصين ، في هذا الدور  الثوري من الانقلاب العالمي الشامل لأوضاع التاريخ والبشر.

ولا ننسى فئة أخرى كريمة، كان لها معنا نضال مشترك، وكنّا ولا نزال نسعى لنعيد لها حرّيتها في العمل الحرّ.

ونقول للرساميل الأجنبية ولأربابها التي تريد العمل في لبنان، لن تجدوا أفضل من الاشتراكية عونَا، لأنَّنا بوصفنا نواجه قضايا الاقتصاد ككلّ لا كجزء، ولأنَّنا نريد الخلاص بأسرع ما يمكن الخلاص، ورفع مستوى المواطن الاقتصادي بأقصى ما يتوجّب، لن تجدوا أفضل وأقدر منّا عونًا لكم في سبيل توظيف المال، والحفاظ على الإنتاج وضمان المصالح، إذا رضيتم إن تنسجم أعمالكم وأموالكم بالعمل الوطني المشترك، وأن تستهدف مصلحة البلد ألاّ تتأثّر إلاّ بالسياسة الوطنية.

ونقول مثلها لأرباب الصناعة والرساميل الوطنية: “الاشتركية في بدء عهدها وتطوّرها هي أحوج ما تكون للتعمير ولتوظيف الرساميل بشكل يتلاءم مع التصميم العامّ الموجّه، للبلاد”. وإنَّنا من الذين يميلون إلى الاعتقاد، بأنَّه من الممكن في بداية عهد الاشتراكية، وحتّى في ما بعد، أن يخصّص من ضمن هيكل الدولة الاقتصادي التعاوني الجماعي – حيث يملك المواطنون كافّة – بابًا للرأسمالية يقفل ويزول ويتحوّل إلى ملكية تعاونية كلّما توافر لأرباب العمل والمال أن يرجعوا أموالهم الموظّفة وأن يربحوا العادل من الأرباح. وقد يكون في هذه البادرة – علاوة على كونها تشجيعًا مباشرًا لللتعمير وللإنتاج، نتيجة إثارتها للحافز الشخصي – ودلالة ورمز – على أنَّ بعض الرأسمال الوطني، أخذ يعمل كما يجب أن يعمل في الحقيقة في سبيل الغير، في سبيل الجماعة، في سبيل الوطن.

ونقول للدول الديمقراطية الغربيّة، أنَّنا نمثّل حرّية الديمقراطية الحقيقيّة في لبنان: ديمقراطية الفكر وديمقراطية السياسة وديمقراطية النهج الحرّ والواقع. وأضحى على الغرب أن يختار بين الكلّية المتطرّفة في لبنان، يمينية كانت أم يسارية، وبين التقدّمية الاشتراكية، بعد أن أضحت التقدّمية الاشتراكية الحزب الذي لا يمكن التخلّص منه إلاّ بقتل جميع أفراده. فعلى قدر تفهّمكم لواقع الشعوب العربية ولنهضتها، وفي طليعتها قضيّة فلسطين والمغرب ومصر، ولواقع لبنان، وعلى قدر ما تمدّون للشعب ولتحريره يد المساعدة تكون علاقتنا معكم وتركيزنا لتعاون سلمي مثمر بيننا وبينكم.

ونقول لإخواننا اللبنانيين “الأقحاح” على حدّ تعبيرهم – ولا قحّ إلاّ بثقة المواطن بوطنه – الذين ضلّلتهم دعاوة بعض الكتل والهيئات الشعبية الطائفية: سنجعل الأحزاب، والمتباعد النزاعات والمتفرّق الطوائف، شعبًا واحدًا موحّدًا يبقى الدين فيه محور حياة الفرد، على أن يكون الوطن والسياسة للجميع. وسنمحو عار 1860 وما سبقها وما لحقها من روحية ومن أوضاع طائفية. وسيعود لبنان إلى أيّام التنوخيين والمعنيين والشهابيين، يوم لم يكن هنالك روحية ولا أوضاع طائفية. ويوم كان اللبناني منعتقًا إلى درجة كبيرة من مركًّب الضعف ومن مركَّب الخوف صنوه، فكان توسّعيًّا لا انعزاليًّا، وكان لبنان فاعلاً مفعولاً، وقادرًا لا مقدورًا عليه، وقائمًا جلموداً لا يزعزع كيانه شكّ.

ونقول لإخواننا أرباب القضايا العربية، إنَّ الاشتراكية وحدها تزيل التزاحم الرأسمالي والتنافس الطبقي والتناقض الإقليمي والسياسي بين الشعوب العربية، فهي الطريق نحو التعاون العربي الحقيقي لا التعاون الخيالي. ولا عروبة ممكنة دون الاشتراكية.

ولا عروبة يكون لها إمكانية التحقّق في الروحية وفي واقع المؤسّسات قبل أن يتحرّر جميع اللبنانيين في مركب الضعف إزاء الغرب والشرق على حدّ سواء، قبل أن يتوحّد لبنان فيصبح حقًّا وطنًّا.

من ظفر إلى ظفر تحمّلنا الأرياح الموسمية، كأنَّ الأقدار شاءت أن يلعب الولد الطفل بكرة السلّة. فكلّ عزّ بالنسبة إلينا لا تترفّع به النفس وكلّ مجد ما عدا مجد الحقّ المتجلّي في صميم الحياة، أي في صميم الذات، سخرية مُحِطّة مريرة.

شاءت إرادة التجريد فينا، أن نستخفّ أفرادًا وجماعات بالعلى، كما يستخفّ المتعبّد الصديق بالجنّة، إذ يدرم صوب وجه الذي لا يتحوّل ولا يزول.

وشاءت القوّة المعنوية التي تنبع من أعماقنا، أن نهزأ بالقوّة المادّية الغاشمة لمَّا أدركنا أنَّ القوّة الحقيقيّة مصدرها نحن ومرجعها نحن.

شاء الحقّ الذي يحرّر، أن يكون منّا صفوة من الأحرار على قدر صفاء اليقين في ذواتهم، وعلى قدر تمرّسهم بالسيطرة على الفكر وعلى الحواس وعلى الجسد.

فمن على عتبة إحدى مراحل هذا المجد المكتسب والمرفوض في آن واحد، وامتدادًا لحدس هذه الإدارة وتحقيقًا لمشيئة هذا الحقّ، وتجلّيًا ظاهراً وباطنًا للقوًة المعنوية، يقف اللبنانيون ليعلنوا من جديد:

إنَّ الثورة الشعبية مستمرّة، وهي تتقوّى في كلّ يوم بزيادة وعي الجماهير لمصالحها الأساسية في الحياة، وإنَّ لا مساومة مع رجال العهد البائد. وكلّ من يساوم منّا، في غير الحقّ والمصلحة العامّة، فهو خائن.

وأن لا نحيد عن تنفيذ ما يطلبه الشعب من برنامج للأحزاب وللإصلاح السريع الحاسم، وأنَّ من يحيد يخسر دينه ودنياه. والدين عهد والدنيا مجال لتحقيق هذا العهد – عهد الوفاء – عهد الضمير.

وأنَّ لا طريق إلاّ الطريق التي آمنوا، أنَّ من أخلص للشعب ووعى أمانيه ببصيرة وأتقن توجيه إرادته، يُضحي الشعب بتوجيهه وقيادته قوّة لا تلين ولا تقهر.

وأنَّ لا مجال للتحوّل بهذه البلاد إلى مشاريع الاستعمار والدفاعات الإقليمية المجرمة. وأنَّ من يشحذ السلاح فلينتظر الحرب. وأنَّ لا مصلحة عامّة إلاّ مصلحة لبنان أوّلاً وآخرًا – أي مصلحة شعب لبنان.

من على السدة المتقدّمة فوق أمواج الجماهير الصاخبة وفوق البحر الأزرق الهادئ المديد المطمئنّ، كأنَّه  الرغبة المجرّدة في صدر الحبيب، أو كأنَّه أمنية من أماني العطش والعاطلين والجياع والمظلومين الذين باًسمهم في “الدير” تكلّمت، يشرّفني ويشرّفكم أن نذكِّر عهدًا قطعناه في (دير القمر) وهذا الاجتماع يضمّ أضعاف ما ضمّ ذاك – وأن نذكِّر به من خارت قوّته أو وهنت عزيمته أو تحوّلت، بفضل البهارج، بصيرته.

أيّها المسؤول، شعب لبنان لك ولنا.

عد إلينا وعد إليه يعد إليك، فيكون الخلاص لك ولنا.

النصر للجماهير الشعبية!

النصر للحصاد الذي  بدأت صفرته المليئة بالعطاء تغطّي السهول وتعلو القمم،

النصر للصادقين المضمرين الأوفياء لعهودهم!

النصر للانقلاب ولكلّ انقلاب!

النصر لكم! النصر لنا!

(*) المصدر: كمال جنبلاط، “العقلانية السياسية”، الدار التقدمية، المختارة، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2016، ص 83-94