القهر الإنساني: وليدة العنف

ميرا مكنا

لربما، حان الوقت لمحاولة قراءة الأمور من منظار مختلف، من منظار علمي، بعيدًا عن العواطف التي تعصف فينا نتيجة ما نراه من عنف و قتل واستخفاف بحياة الناس، لنقرأ الحوادث كما تترجم نسبة لدراسات نفس ٍ إجتماعية، علها تساعدنا على فهم الأمور بوعيٍ أكبر لما يحيطنا من ظواهر إجتماعية.

عبر العصور، تم تجاهل الدينامية النفسية والعقلية والعلائقية الموجودة عند الانسان، والتي تؤكد أن التخلف على المستوى الانساني هو نمط موجود منذ بداية التكوين. فلقد ساهمت ممارسات المجموعات المؤثرة في المجتمعات والتي تندرج تحتها السلطة على سبيل المثال، إلى تعزيز هذه البنية المتخلفة، والوصول لها نتيجة المحاولات السطحية القائمة على مخططات تنموية ضعيفة لبناء المجتمعات، أو غير ملائمة كاستيراد نماذج دول متقدمة صناعية في بناء مجتمعات متطورة، مما أدى الى فشل هذه المشاريع الاستعراضية في محاولة الارتقاء بالإنسان ضمن المجتمع، فلم يُنظر للانسان باعتباره عنصرًا اساسيًا ومحوريًا في أية خطة تنموية تلامس تغيّره، أو متعلقة بوجهة نظره للأمور لأخذها بعين الإعتبار.

لا بد في البدء من الوقوف عند الدينامية النفسية والاجتماعية للانسان المتخلف، والتي تشير الى أن الانسان المتخلف ينشأ تبعا لبنية إجتماعية معينة، ويصبح قوة مؤثرة و فاعلة فيها. فيرتكز دوره حول تعزيز هذه البنية ودعم استقرارها بمحاربة تغييرها، نظرًا لارتباطها ببنيته النفسية. من هنا تبرز أهمية دراسة العلاقة الجدلية بين السبب؛ أي البنية، وبين المسبب؛ أي النمط الانساني التي ينتج عنها، من أجل وضع خطة تنموية لأي من المجتمعات المتخلفة.

فلننتقل الآن للحديث عن الانسان المتخلف، الذي يعاني بشكل أساسي من “قهر إنساني”. فهذا الإنسان هو ذاك المقهور أمام قوة التسلط التي تفرض عليه من أي جهة تعتبر أرفع شأنا و مسؤولية منه؛ كالحاكم المستبد، المستعمر، رجل الأمن، المالك، رب العمل، الرئيس، وغيرها من الأدوار الجائزة. وهذه القوى تحركها المصالح المشتركة، كي تقيد الانسان و تفقده السيطرة على مصيره، مستخدمة القانون الاعتباطي، الذي لا يملك فيه الانسان اي حق، سوى ما تهبه اياه تلك السلطة. فيجد الانسان نفسه هنا أمام علاقة تسلط عنفي، ولا يسعه سوى أن يلتزم التبعية والرضوخ، ليصبح في موقع الدونية. فعالم التخلف، هو عالم التسلط واللاديمقراطية، يختل فيها التوازن بين “السيد” و”الانسان المقهور”، حتى يفقد فيها الانسان انسانيته، والاعتراف بقيمتها.

حتى نصل لمرحلة “القهر والرضوخ”، فيقبع المجتمع هنا بما يسمى “زمن الانحطاط” لارتفاع درجة رضوخه، وتكون قوى السلطة في أوج سطوتها، فقد نجحت قوى التسلط في إقناع الجماهير بضعف قدرتها على الرد والمقاومة، ومصيرها بالرضوخ والخشوع الدائم، قتقطع السبيل بوجه أي محاولة إنتفاضة، التي تقطعه من وقت لآخر “فقاعات تمرُّد فردي”، لا تلبث أن تختفي بسرعة، نظرًا لما يواجهها من ردود فعل عنيفة، تمارسه الفئة المتسلطة. هذا الاحساس بالعجز أمام المصير المهدد دوما، تدفع الانسان المقهور نحو الاتكالية والقدرية الاستسلامية.

إن طول هذه المعاناة نتيجة القهر والتسلط، تنعكس على تجربة الانسان الوجودية، فتعاني من تضخم لآلام الماضي، وتأزم لمعاناة الحاضر، وانسداد لآفاق المستقبل. فيفقد الإنسان الثقة بنفسه وامكاناتها، وقدرته على السيطرة على مصيره أبدًا، فيشعر باليأس من الخلاص. ولكن، يحاول الانسان تجنب ما يُفرض عليه من تسلط، عبر اللجوء الى أساليب دفاعية عديدة لا تتصدى للواقع، بل بأغلب الأحيان إما تهرب منه (باعتماد مبدأ الإنكفاء على الذات)، الهروب إليه (التماهي مع المتسلط) أو العيش في وهم السيطرة عليه (السيطرة الخرافية على المصير)*. ولكن هذه الآليات لا تستطيع أن تُجنب المرء تراكم التوتر النفسي الذي يعاني منه، مما يؤدي الى تفاقم الحقد الداخلي الموجود لديه، والذي بمعظم الأحيان يهدِّد بالانفجار او الاندثار. فنصل الى “العنف والقتال”.

فالعنف، هو السلاح الأخير لإعادة الاعتبار المفقود الى الذات بالنسبة للانسان، فيشعر الأخير انها لغة التخاطب الوحيدة المتبقية والممكنة مع الواقع ومع الآخرين، لأنه يشعر بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، خصوصًا وانه فشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته. وهنا نرى أن العنف يصبح عشوائيا، مدمرًا يلعب في كل اتجاه، والغرض منه تغيير الواقع. إذًا، يصبح العنف آفة المجتمع المتخلف، وتغدو العدوانية متفشية ومتفجرة أيضا، والأشكال الدموية التي تأخذها مظاهر هذه العدوانية، تؤكد هذه الحقيقة.

من هنا نجد أن كلما زاد القهر من خلال الارهاب والقمع الذان ينخران ويفسدان المجتمع ويجعلاه متخلفًا، يصبح العنف هو السلوك الأكثر شيوعًا في هذه المجتمعات، في حال لم تتغير العلاقة لتصبح أكثر مساواة، وتعيد الاعتبار للحاكم والمحكوم. فشخصية الانسان المتخلف وخصائصها هي نتاج هذا المجتمع المتخلف الذي نشأت فيه، وانعكاس لبنيته في حركته التاريخية.

بناء لما ورد في هذه الدراسة، نستطيع أن نؤكد أن الخصائص النفسية لشخصية الانسان المتخلف، وما يلجأ له من أساليب دفاعية، تشكل عقبات أساسية بوجه التغيير الاجتماعي وأية مساعي للتنمية. من هنا تبرز أهمية فهم ووعي هذه الدينامية والتعمق بها، إذا ما أردنا الوصول للتغيير والتنمية الاجتماعية الصحيحة في عالمنا العربي.

ولكن، في ظل التطور الذي يطال الشعوب عبر تقدم التكنولوجيا، والذي يساهم بزيادة الوعي بدرجة اضطهاد السلطات لشعوبها، ومحاولة الأخيرة للنهوض عبر الحركات التصعيدية والثورات التي نشهدها، نستطيع الآن أن نستخلص أن السلطات فعليًا تستخف بهذه القدرات ولا تنكفء عن استضعافها واستغلالها من أجل مصالحها، فلا عجب لما نشهده من مظاهر تخلف، انحطاط، فعنف…

* للتعمق أكثر في هذه التفاصيل، مراجعة كتاب التخلف الاجتماعي، للدكتور مصطفى حجازي.

(*) مسؤولة ملف الثقافة والأنشطة في الأمانة العامة لمنظمة الشباب التقدمي

اقرأ أيضاً بقلم ميرا مكنا

الصمت الجماعي