عندما يكتب كمال جنبلاط عن “قضايا الشباب”!

نظنّ أنه حان الوقت لأن نجابه الرأي العامّ ببعض الحقائق عن واقع ما يتخبّط به بعض الشباب اللبناني وبعض الفئات الراشدة نفسها من انحرافات وانجذابات مفسدة واتّجاهات خاطئة تتقوّى وتتوسّع وتنتشر بواسطة أساليب الدعارة الحديثة التي دخلت البيت ذاته مع الراديو والتلفزة ونزوة التقليد المتعامي المسترق لكلّ جديد An obisme، بحيث لا يعود، في المستقبل، ممكنًا تحويل التيّار المنجرف بأولادنا وأصدقائنا وعائلاتنا، أو تصحيح هذه الأوضاع الظاهرة للحضارة بما يتّفق مع الأخلاق وأسس روحيّة الحياة وغاياتها الإنسانيّة الأخيرة وجوهر كلّ دين.

والخطر الملازم والمتعاظم، هو في قيام محاولاتٍ في شتى المجالات (في الفن، في الموسيقى، في الرقص، في العادات والمظاهر) لإبتداع لون من الهستريا تنبثق من فهم الرغائب في الإنسان وتعبر في الواقع عن مضامين الكبت الباطنية والمنبثق من هذا التصادم و التناقض في الإنسان العصري، بين فكره وعاطفته، اللذين توسّعا كلاهما وصُقلا وتفتّحا على ألوان من تذوّق الجمال وحقائق العلم وامتيازات الحضارة، فلم يعد يجد الإنسان في فهم الرغائب الغريزيّة والعاديّة منيته، وموضع استقراره واطمئنانه، ومرساة هنائه، وبين نقص أساسي في تربية الشخصية وتمكينها من استيعاب إمكانيات الفكر المتوسّع وتحسّسات العاطفة المتطوّرة،على ضوء التوجيه الخلقي والترفّع الأدبي والروحي.

وهذه الرغائب التي ألمحنا إليها وهذه النزعات البكر والمُولّدة ايضاً للفكر وللعاطفة، بفعل الحضارة الماديّة، وانتشار العلم، وتمكّن كلّ مواطن تقريبًا من التحصيل إلى أبعد  مدى، لا تطمئن في الإنسان ولا تبلغ مستوى السلام والتوازن والانسجام المتوافر ومرتقى هذه الموسيقى الداخلية والخارجية التي تعبّر عن قصد الخلق منّا وفينا، وعن غاية الوجود، الاَ إذا لعبت بها ودفعتها وحوّلتها ورفعتها وشبكتها بعضها ببعض، في وحدة طبيعتنا الأصلية، أنامل قيتارة الوجود الحيّ الحقيقي الذي يرقد فينا والذي نفتّش عبثاّ عنه في مستوى حلم الدنيا الظاهر وفي مرتبة الرغبة والغريزة المتعامية الغائرة…

ولعلّ أزمة هذا الجيل انها لم تتوصّل بعد إلى التعرّف إلى الروحيّة التي تتناسب مع ما توصّل إليه العلم في الحقل التجريدي وما أبرزته التقنيّة من أوضاع ماديّة للحضارة.

على أنه يتوجّب علينا، نحن في لبنان أن نبدأ على الأقلّ في محاولة معالجة هذه الأزمة، وذلك بحجب الإنسان ما أمكن عن الملهاة الشيطانية المتقدِّمة إليه، والتي ستلتهمه حتمًا في فورة تحقيق الرغائب، جميع الرغائب، والرغبة كالجحيم لا تنطفيء نارها كما يتوهّمون بتحقيق أغراضها، بل يتّسع اللهيب ويتعاظم كمن يرى في الأتون على الدوام أكواماً من الحطب والأخشاب اليابسة…فالمشكلة هي مشكلة تحويل وترفيع للتيّار الحيّ فينا ولإمكاناته المتناهية…

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، علينا بعد التبصّر بواقع وبحقائق هذا البلد، أن نرسم سياسة إيجابية تتعالى لأجلها في كلّ بلد من بلاد العالم اليوم، نداءات وتطلّعات ومطلب شغوف كمن يفتّش عن بعض وجوه الحقيقة وسط هذه العلبة من السحر المادّي والفكري، التي أضحت عليه المدن المتحضّرة في العالم.

ولنبدأ بشرح واقعنا قليلاً قبل التحدّت عن أي شيء آخر.

عندما تسلّمت منذ سنة تقريباً، وزارة الداخلية، بناء لتكليف رئيس الدولة، فكّرت طبعًا بإعادة هيبة القانون وتنمية وعنفوان السلطة – وقد تمَّ ذلك إلى حدًّ كبير لم يسبق أن بلغته البلاد من قبل، أي منذ بداية عهد الاستغلال والميوعة التي أعقبته – وفكّرت كذلك في تقوية أجهزة الإدارة معنويًّا وفي تحريرها من التدخّل ومن السياسة، وفي استخدام البلديات والهيئات المحليّة على أوسع مدى، لرفع مستوى الأرياف ولنشر العمران، ولتقوية روح الحلم الذاتي والاتّكال على النفس – وفي هذا الاتّجاه وُضِعت مشاريع قوانين البلدية والمخاتير الجديدة وفُرضت رقابة أقوى وتوجيه متّصل وواضح على الأجهزة التنفيذية المختلفة، فيما عدا، طبعًا، ما عُني به بشكل خاصّ، بعد المؤامرة الانقلابية الفاشلة، من مراقبة أفضل للدسائس والمؤمرات وأجهزة المخابرات الأجنبيّة ومساعي الدعاوة السيّئة والتخريب.

ولكنّه لم يفتأ عن بالنا أنَّ هنالك تهديم أعمق ومؤمراة أوثق ودسيسة أدهى تقوم معظم الأحيان في هذه الصور المتحرّكة على الآلة الصغيرة وفي جوف الصندوق الجميل الصنع في البيت أو على الشاشة البيضاء في دار السينما، والتي يتتبّعها بعيونهم المنفتحة على عقولهم وعواطفهم وغرائزهم، أولادنا الصغار وشبابنا وأفراد عائلاتنا والأولاد الكبار منّا أيضاً – وهل يشيخ أحد منّا إلاَّ لعثرة الروح وسقم التخلّي عن الحقّ وعن العدل وعن الرجولة الحقّة وعن الجمال – فتنغرس هذه البذور، مع ما هي عليه من زوان ومضامين انحراف ورذيلة ورغبة في الإجرام أحياناً، في نفوس الصغار والشباب بشكل خاصّ، فتعود تنبت فيها الاتّجاهات والعادات السيّئة التي طالما حاولنا بواسطة التربية أن نجنّبهم إيّاها، هذا عدا اليأس، وهذا التشاؤم، وهذا الاستهتار، وهذه الإباحية، وهذه الفوضى الروحي والخلقية، وهذا التهدّم الكامل للأعصاب وللفتوة ولكلّ شعور أو سعي سليم…

فتكون الذهنية أضحت مُعَدّة لكي تستلمها أيادي الدعارة السريّة أو الانحراف الجنسي، أو لكي تستقطبها في النهاية، وبشكل حتمي، وتجذبها  إليها، بلا عودة أحياناً كثيرة، هذه الهستيريا التي تبرزها هذه الموسيقى وهذه الألوان من السمر والتجرّؤ والشرب والرقص التي استعرناها، في طفرة طلب المهيّجات باستمرار، من إخواننا السود من أواسط أفريقيا الاستوائية. ونحن لم نفطن أنَّ أيضاً الرجل الأسود يستطيع دون أن تتولّد فيه هذه الهستيريا المرضية، من جرّاء ذلك، أن يتمتّع بهذه الموسيقى وبهذا الرقص وبهذه العادات في السمر وسواها، وهو لا يزال على الفطرة – أي أنَّ ذهنية التأويل والتمييز لا تزال على ما هي فيه – ولم يتفتّح بعد فكره إلى ما تفتّح إليه عقلنا ولم تتلوّن بعد عاطفته، وفوق كلّ ذلك فله ذهنية خاصّة به يرتكز إليها، وتنبثق منها هذه العادات وهذا التصرف في الحياة، وللمحيط الجغرافي والإنساني وللبيئة أثر في ذلك.

فنحن، عندما نقلّد إخواننا الإفريقيين نفعل ذلك كمن يلبس زيًّا نفسيًّأ لا يلائمه ولا يناسبه علي الإطلاق، كمن يحاول أن يمشي باستمرار على يديه ورأسه في منقلب وعكس ما قد تعوّد عليه.

ثمَّ إنَّ الأهمّ من ذلك أنَّ هذه العادات الفولكلوريّة المتنوّعة والمنسجمة بعضها مع البعض الآخر، ترتكز في نفسيّة إخواننا من قاطني أواسط أفريقيا إلى مجموعة متناسقة ومترابطة من الاعتقادات الروحية الحيّة ومن الطقوس والإلتزامات الدينيّة والخرافات والأساطير الرائعة الخاصّة، وهم لا يزالون مرتبطين بالطبيعة ملتصقين بنبضة الخلق وأسرارها، لا يتميّز تيّار نفسيتهم ولا ينفصل عن لغة الأشجار وهدير الأسواقي ومتعة المياه وتصوّرات الليل والنجوم والأنوار، وحياة الكون بأسره، كما يتحسّسون بشكل عامّ.

فالرقص، حتَّى الذي يعبّر عن بعض الألوان المستغربة والغريزية بالنسبة إلينا، هو بالنسبة إليهم طقس من طقوس ذهنيتهم المتديّنة، وموسيقاهم مهما ولّدت فينا من دهشة وحيرة واستهتار مسعور، فهي بالنسبة إليهم شيء  آخر تمامًا، يدخلها من أصداء الخلق ويعلّق بها من رواسب التوحّد مع الكون ومن علامات التكريس والاطمئنان ما لا يبيّن لنا ولا نشعر به في ذهنيتنا القائمة، نحن لا نستبطن هذ العادات وهذا التراث، وإنَّما نحن نقلّدهم من الخارج، للعبث الرخيص واللهو المسفِّ لا أكثر، بعد أن ضاقت نفوسنا بالتمتّع بتراثنا الإقليمي والحضاري الخاصّ المتجلّي في المواسم والأعياد والشمائل والتقاليد والحكايات والأحان، ودون تفهّم هذا التراث على حقيقته أي على ضوء الكلاسيكية أو الأصالة الكافية فيه. كأننا شعب بدون تراث وبدون تاريخ…

فتصبح موسيقى إخواننا الإفريقيين بالنسبة إلينا تهييجاً متصاعدًا وانخطافًا مثيراً ويضحي رقصهم، في تمرّسنا إيّاه، عربدة وتمثيلاً لأحطّ الغرائز، فنضيع، ويولد هذا الجيل بيننا، الذي يؤسفني أن أقول أنه لا يرتبط معظم الأحيان بشئ، لا بوطن ولا بقومية ولا بهدف إنساني ولا بحشمة ولا بتقليد حقيقي ولا بتاريخ ولا بشرف…

ثمَّ يدخل مفعول المخدّرات في كلّ هذا، وانجذابات الجنس، فإذا بالأفيون والهرويين والكوكايين، تفتك في شبابنا وتلامذتنا وكبارنا أحياناً، فتكًا ذريعًا، وهو مركب تعويض وإستكمال لهذه الهستيريا الإباحية التي تكون قد قولبت عبر السينما والتلفزيون وعادات الرقص والألحان وبعض صور الصحف الخلاعية وأخبارها عن الأجرام والحوادث الموجّهة تكون قد قولبت هذه الذهنية، فأبعدتها عن ضوابطها الأخلاقية والروحية والإرادية المألوفة في المجتمع الذي نحن فيه.

وإنَّ ما شاهدناه من منظار هذه الوزارة كان أخطر بكثير وأشدّ خيفة على مستقبل الجيل الطالع وعلى مصير البلاد مِمّا كنّا نتصوّره. فالدعارة السرّية التي يسبّبها الفقر أحياناً وما يلازمه من إغراءات خاصّة في بعض أحياء المدينة وفي بعض قصبات الاصطياف، تتوسّع باستمرار، وهي سوق حقيقيّة للرقّ الأبيض والإباحية التي هي صنو الدعارة، تشمل أكثر فأكثر فئات مختلفة من الناس علاوة على أنها تركّزت، وفي مدينة بيروت بشكل خاصّ، في بضعة آلاف من الشباب الصغار والكبار الذين ألمحنا إليهم وإلى طريقة تطوّرهم إلى هذا المستوى الذهني فيما قبل… والأفلام العارضة لمآسي الملاكمة وللحروب والملاحقة والسرقة والضرب والقتل والفتك، في جوّ إغراء الطبيعة أو خدعة اكتشاف الدسيسة، أخذت تلعب دورها في دفع الصغار والشباب إلى تقليد كلّ ذلك وامتهان الخلع والكسر والسرقة على الأقلّ، في وجه كلّ ذلك، رأينا من واجبنا الطبيعي أن نتّخذ بعض الخطوات والتدابير الأساسية، نذكر منها:

– التوصية بمراقبة أشدّ وأضيق ومتدرّجة على أفلام السينما والتلفزيون، وقد تمَّ ذلك ولكن بشكل لا يرضينا بعد.

– وضع مشروع قانون لمراقبة الأفلام، يقضي بتأليف لجنةٍ قوامها من ممثّلين عن مختلف الوزارات المختصّة، ومن بعض ممثّلي الهيئات الدينيّة، لاعتقادنا بأنَّ رجل الدين الحقيقي، هو ضمانة بحدّ ذاته وبالنسبة لثوبه، أكثر من غيره… ولا نزال على نقاش وجدل مع بعض زملائنا في الحكم منذ أكثر من خمسة أشهر لجعلهم يقبلون بمبدأ تمثيل رجال الدين في هيئة مراقبة الأفلام وإنَّنا طبعًا نصطدم من وراء كلّ ذلك بهذا الكارتل الصغير الذي يشكّله أرباب صالات العرض في بيروت، الذين يعتقدون خطأً بأنه سيلحقهم ضرر من جرّاء إقرار القانون بالشكل الذي تقدّمنا به.

– وضع مشروع قانون بإلغاء البغاء الرسمي. ولا نزال أيضاً نكافح منذ أكثر من سبعة أشهر لأجل إقراره في مجلس الوزراء، وتحويله فيما بعد إلى المجلس النيابي.

– التوصية بمكافحة أقوى لتجارة المخدّرات. وقد تمَّ شيءٌ من ذلك. على أنَّ الأساس في تنفيذ القانون في هذا الباب، من جانب القضاء كما يتوجّب، وبالقساوة القصوى، وتمكيننا من تصديق مشروع القانون الذي وضعناه منذ سنة تقريبًا والذي يقضي بإخضاع المحكومين بتهريب المخدّرات وبالإتجار بها إلى الإقامة الجبرية في إحدى القرى البعيدة عن العاصمة وعن مراكز التهريب على الشواطيء، وكذلك بالتعاون المستمرّ بين القوى الحارسة للشواطىء… فمشروع قانون الإقامة الجبرية، إذا ما تمَّ والذي اصطدم بعقبات ومقاومات لم تكن بالحسبان، سيقضي قضاءً شبه كلّي على وجودها في لبنان وعلى تهريبها ومعاطاتها…

أمَّا المقامرة، فلا نتحدّث عنها في هذا البيان، نظرًا لخطرها ولشيوعها، كما تعلمون. ويجب التصريح بلا مواربة بأنَّ وضع البلاد، وخاصّة العاصمة لم يعدّ يسمح بأن نتأخّر في اتخّاذ بعض التدابير الجذرية… ونأمل من جميع المواطنين، وخاصّة أرباب العائلات ورجال الدين ورجال الصحافة، أن يساندوننا لأجل ذلك… ويجب الاعتراف أننا لم نرَ حتَّى الساعة، أيّة مساندة من جانبهم تقريبًا…

ويجب أخيراً أن نعلن بأننا لن نقبل بالنظرية القائلة في لبنان، وفي هوس تأييد حرّية الاقتصاد المطلقة التي تنكّرت لها جميع الأديان: بأنَّ لبنان يجب أن يبقى هكذا ويصبح أكثر من ذلك، لكي يستطيع أن يسدّ ثغرة من عيشه: أي أن تظل في ارجائه مواطن فسيحة للمقامرة وللدعارة ولمعاطاة المخدّرات وتهريبها ولممارسة الإباحية… ولذا نشدّد على تصنيع البلاد ونستصرخ ضمائر الصناعيين لكي يقوموا بذلك، لامتصاص الأجيال الطالعة في العمل المثمر والمسؤولية المهنية الإيجابية…

أمَّا لبنان المقامرة والعهر الأخلاقي والإباحية في شتّى ألوانها، فهو ليس لبنان، ونرفض أن يكون كذلك مهما كان الثمن – ولن ندفع أي ثمن كما يصوّر ذلك بعضهم للخداع والإيهام، ولكي يستمرّ استثمارهم حتَى لأخلاق الناس وحتَى لحياتهم ولأرواحهم وأجسامهم…على الأقلّ ليس هذا هو لبناننا هذا، فليستطيبوه لو أمكنهم ذلك، ولنا لبناننا…

(*) مقالة نشرت في كتاب “أحاديث عن الحرية” ص 147، وأعيد نشرها في كتاب بعنوان:  “قضايا الشباب” لكمال جنبلاط (ص 135-142)، الدار التقدمية، الطبعة الأولى، أيار 2014.

(الأنباء)