الإنتاج أساس القوة الإقتصادية / بقلم كمال جنبلاط

في مهرجان بتخنيه الشهير، ألقى المعلم الشهيد كمال جنبلاط كلمة شاملة تناول فيها الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والزراعية راسماً فيها خارطة طريق للإصلاح الإقتصادي المنشود. ونشرت كلمته في جريدة “الأنباء” في 2 تشرين الأول 1965. وتعيد “الأنباء” نشرها لأهميتها:

نرحّب بدعوتكم الناهضة ووفودكم التي حضرت اليوم من جميع مناطق لبنان (تقريباً) هذا المؤتمر الشعبي الصغير، ولو أننا كلّنا جئنا يحدونا الشعور بالمسؤولية والواجب، لنؤيد التخطيط العملي والحلول الإيجابية التي تقدّم بها فريق من إخوانكم في المجلس النيابي، ووافق عليها هذا المجلس بإجماع أعضائه في ما يتعلق بتصريف الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي في لبنان.

– التحسّس العميق للمصالح الشعبية الإقتصادية

لأول مرة في تاريخ هذا البلد، يبرز التحسّس العميق والوعي الشامل للمصالح الشعبية الإقتصادية الكبرى، التي تشكل عنصراً جوهرياً في عيشنا وعملنا اليومي… فهذه الأضواء الكاشفة لمعضلاتنا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية الأساسية سنسلطها أكثر فأكثر وبقوّة متزايدة على واقع الاحتكار وحقيقة الاستثمار وفوضى الحرّية المطلقة التي تتحكّم بهذه البلاد فتثقل انطلاقها في مجال التنمية، وتهدد انهيار مواردها، وبوار محاصيلها، وتقويض كلّ مصدر للإنتاج الوطني القومي، وتمهد لوقوع كارثة حقيقية تشمل مليون ونصف المليون من المواطنين في جميع مناطقهم وفي أعزّ وأخطر ما ينبته جهدهم ويرعاه نشاطهم وتخلّقه مبادراتهم الحرّة وإيمانهم وسعيهم، من أعمال ومشاريع وإنتاج.
هذا هو لبنان الحقيقي، لبنان المزارعين والمنتجين والصناعيين والحرفيين والكادحين. هذا هو العمود الفقري الذي بدونه لا يستطيع شعبنا أن يعيش وأن ينهض وأن يتطوّر وأن يبقى.

– أزمة الإنتاج وتطوّر الوضع الإقتصادي والبشري اللبناني

أزمة الإنتاج تبلغ شأوَها هذا العام ليس فقط لأنّ موسم التّفاح يهدّد المزارعين بكارثة، وليس لأنّ مواسم الزيت والزيتون والحمضيات تمرّ بأزمات مستعصية للبيع وللتصدير وللاستهلاك، بل لأنّ هذه الأزمات الإقتصادية الخانقة التي يتحسّس بها جزئياً أو كلياً، أكثر من مليون وثلاثمئة ألف لبناني، تقع في مرحلة من تطوّر الوضع الإقتصادي والبشري اللبناني، تتّصف:

أولاً- بالزيادة المضطرة لعدد السكان، بنسبة ستين إلى خمسة وستين ألف مولود لبناني جديد في نهاية كل سنة، بحيث يبلغ اليوم عدد اللبنانيين المليونين وثلاثمئة ألف، يضاف إليهم ما يقرّب من أربعمئة ألف أجنبي وغربي ولاجيء في بقعة ضيقة ومحدودة من الأرض لا تزيد على العشرة آلاف كيلومتر مربّع، أي تكون النسبة السكنية عالية جداً قد تفوق مئتين في الوحدة الكيلومترية المربعة، لو استثنينا المهاجرين من عدد المقيمين فعلاً.

ثانياً- يبلغ عدد طالبي العمل الجدد في نهاية كلّ سنة خمسة وثلاثين إلى أربعين ألف مواطن بلغ سن العمل.

ثالثاً- لأنّ عدد المتعلمين في مختلف المستويات، آخذ بالزيادة التصاعدية المضطردة… فأي عمل نستطيع أن نقدّمه لهؤلاء سوى نشاط الزراعة والصناعة والحرف.

رابعاً- لإنه لا يزال يوجد في لبنان أربعمئة وخمسين ألف مواطن في سن العمل، وفق تقرير الأب لوبريه، ولا يعملون.

خامساً- لأنّ ظروف العيش للفئات العمالية وللمزارعين والفلاحين وللفئات المتوسطة، أصبحت مستحيلة ولا يتحمل عبأها أحد من اللبنانيين سوى هذه القبضة المئوية من أرباب الإحتكارات وأصحاب الملايين، الذين يعرضون بوقاحة مذهلة، ثراءهم الجشع أمام الناس، فيصرفون على توافه حياتهم وبناء قصورهم وملاهيهم وأسفارهم ومآكلهم، ما لم يتصوره مؤلف ألف ليلة وليلة في رواياته الباذخة الشهيرة، هذا بينما السواد الساحق الشامل من الشعب اللبناني، الذي يفوق المليونين بكل تأكيد، يشكو غلاء الدواء، وغلاء الاستشفاء، وغلاء المدرسة للأولاد والأخوان وغلاء الإيجار، وغلاء المأكل، وغلاء الماء، والكهرباء وأكاد أقول غلاء أنفاس الحياة وضيقها في صدورنا… قُوتلَ الإنسان ما أظلمه وما أكفره بالنسبة إلى أخيه الإنسان…

– واجهة الازدهار وصحاري التخلّف والحرمان

بقعة أو واجهة من الازدهار العظيم والترف، وانفلات العيش والتصرف والصرف، تمتد وراءها أو تقوم صحاري من التخلف والإيذاء والظلم والحرمان. وتأتي وتبرز ضربة الحاصلات الزراعية وانهيار مواردها وتهديد مواسمها بالكساد نتيجة حتمية لتحكم الاحتكار الرأسمالي التجاري في شراء وتصدير هذه الحاصلات وفي تطبيق سياسة المبادلات الاقتصادية مع الدول الاشتراكية النامية، ومع الإتحاد السوفياتي بشكل خاص، وإبقاء حرية الإستيراد على مصراعيه من أوروبا والولايات المتحدة والدول الرأسمالية، كأن للسلع لوناً أزرق أو أصفر وفق مصادرها، أو كأن المعامل لا تتشابه هنا وهناك، أو كأن جرثومة الشيوعية ستفد إلينا مع السيارات والبضائع المستوردة من العالم الشرقي. فتكون حصيلة ذلك النظام الإحتكاري كله، إننا نستورد من أوروبا والولايات المتحدة ما يفوق المليار وثلاثمئة مليون ليرة لبنانية ولا تستورد هذه الدول- الصديقة طبعاً – منا ومن إنتاجنا وحاصلاتنا وسلعنا سوى بضع عشرات من الملايين لا تبلغ في كلّ حال الخمسين مليون ليرة لبنانية…

– الأرقام تصفع الغرب وأصوات النشاز

تذكروا أرقام إحصاءات مكتب الفاكهة… إنّها تدل على أن 84 % من إنتاجنا الزراعي تصدرها إلى العالم العربي و 14% تصدرها إلى العالم الإشتراكي الشرقي، وفقط خمس الواحد بالمئة إلى أوروبا والولايات المتحدة… تمّ بعد ذلك يتقدمون منا، لأجل سخرية القدر، بمشروع لضمان توظيف الرساميل الأميركية إلى لبنان، ويستقدمون أسطولهم السادس في كل مناسبة ليوهمونا باستهلاك بضع مئات من صنادق التفاح وليفسدوا أخلاق أبنائنا وبناتنا وإخواننا، وترتفع أصوات نشاز بيننا تسممها نفحة الاحتكار ووحي الاستعمار لتقول: الحقّ، كلّ الحقّ على المزارع اللبناني… يجب أن يعدل عن زراعة التفاح وأن يقلع أشجار الليمون والزيتون… وهذا منطق أقسى وأشد إيلاماً وعداوة من الاستعمار ذاته ومن الكلمة المنسوبة لإحدى ملكيات فرنسا في مواجهة المتظاهرين لأجل لقمة العيش: “إذا كان ليس لديهم خبز، إذن، فليأكلوا من البسكوت ما وسع جوعهم…”.

– حرية الاحتكار والاستثمار

ثم تُنادى للدفاع عن الاحتكار والاستثمار أصوات أخرى، بإسم حرية الاقتصاد المطلقة، ويا ليتهم يعنون حرية الاقتصاد في حقيقتها ومفاهيمها العلمية، ولكنهم يطالبون ببقاء حرية الاحتكار والاستثمار في التجارة، في التصدير، في العلم وفي السكن، والإيجار، في الدواء والاستشفاء، في كل ما يعني حياة اللبنانيين ولو قدروا لاحتكروا علينا الماء والهواء…

– عبيد المال وأرقاء الاستثمار

إنهم عبيد المال في نفوسهم وأرقاء الاستثمار، فكيف يستطيعون أن يتفهموا معنى الحرية… إنهم يعبدون الأصنام، ولا توجد في نفوسهم نسمة من العدل أو نفحة من الإنسانية. تذكروا معي كلمة الإنجيل الخالدة: “ويل قبور محنطة بيضاء تسير فوق التراب”… وبعد فإنما وجدت الحرية لأجل خدمة الإنسان ولم يوجد الإنسان لأجل الحرية، لأن الحرية لا يمكن أن تنفصل عن مصلحة الإنسان وعن كرامته وحياته…

– الرئيس شهاب والتحرر من الاستعمار الداخلي

كان يقول الرئيس فؤاد شهاب، عندما يحدثنا عن هذه الشبكة المتماسكة من الأغنياء الكبار والمحتكرين والساسيين والانتهازيين على حد سواء، التي تسيطر على مقدرات الاقتصاد في لبنان، وتشكل الدولة الفعلية: “لقد تحرر لبنان من الاستعمار الخارجي الدولي سنة 1943، بفضل وحدة أبنائه ووعيهم الوطني، بقي على اللبنانيين أن يتحرروا من الاستعمار الداخلي الذي هو أشد وأدهى وأظلم”.

– إذا لك يكن هنالك إنتاج

وبعد، إذا لم يكن هنالك إنتاج زراعي تام ومزدهر ومصون، وإنتاج صناعي مضطرد التطور والتوسع في مقابل زيادة عدد السكان وطالبي العمل وخريجي المدارس والمعاهد، وإذا لم تعمد الدولة إلى تأميم استيراد الدواء، وتأمين الاستشفاء وتأمين المدرسة والمسكن لكل لبناني، وتأمين رخص العيش اليومي، وتأمين العمل، فماذا نقول لهذا السيل من الشباب اللبناني الذي يقبل في كل سنة على العمل، ماذا نقول لأخواننا المواطنين، بماذا نجيب: أنقول لهم عليكم أن تقلعوا أشجاركم المثمرة وتخرّبوا حقولكم وتهدموا مصانعكم وتصوموا وتكسلوا وتتخاذلوا، وتزهدوا بالمبادرة الحرة وبالنشاط. وما عليكم إلا أن تلتقطوا لحاجاتكم بعض ما يتساقط من فئات موائد حضرة المحتكرين وأصحاب الملايين؟ لا سنقول لهم: إذا كانت روح الشجاعة المعنوية فيكم وإذا آمنتم بالنهج الثوري، وإذا جعلتم الوعي الشعبي لمصالحكم الاقتصادية والاجتماعية يُحيط وينتشر ويطغى فيدخل القلوب والعقول والعضلات والأعصاب والسواعد، فإنكم ستنتصرون حتماً في طليعة هذا الشعب العظيم… وستبنون بيت العدالة والإنتاج في لبنان: بيت الأخوّة والتضامن والحرّية.

– المقررات التي صدرت عن المؤتمر

سمعتم الكثير ولا مجال للزيادة، فلنرفع أيدينا وقلوبنا وإرادتنا لأجل المطالبة في هذا المؤتمر الشعبي، الأول من نوعه، باتخاذ التدابير الإيجابية لأجل صيانة إنتاج لبنان الزراعي والصناعي، وحماية مصارفنا ومصانعنا وحقولنا من المزاحمة الأجنبية وتأمين حريتنا، نحن المنتجين والزراعيين، لا حرية الاحتكار والاستثمار والاستعمار الداخلي اللامحدود.

أولاً- تأييد مبدأ تخويل مكتب الفاكهة، شراء التفاح اللبناني بنسبة ألف صندوق لكل مزارع وشراء قسم مماثل من الحمضيات وزيت الزيتون اللبناني والشمندر.

ثانياُ- تخويل مكتب الفاكهة حقّ شراء الأسمدة الزراعية والأدوية الزراعية وبيعها إلى المزارعين منعاً لإحتكار هذه المواد وغلائها الفاحش.

ثالثاً- تنمية التبادل التجاري بين لبنان ودول الكتلة الشرقية ورفع الحواجز والعقبات التي تحول دون هذا التبادل، بتشجيع الاستيراد والتصدير منها وإليها.

رابعاً- تصديق مشروع القانون الذي يقضي على كل تاجر بأن يثبت بأنه صدّر من الإنتاج الزراعي والصناعي اللبناني قيمة تعادل نصف قيمة السلع التي يطالب باستيرادها من الخارج.

خامساً- تخفيض أسعار الكهرباء والمحروقات إلى النصف للبرادات والصناعات الزراعية.

سادساً- دخول لبنان عضواً في السوق العربية المشتركة، تأميناً لمصالحنا الزراعية والصناعية في التصدير.

سابعاً- الدعوة لحماية الإنتاج الزراعي والصناعي وصيانة المصارف اللبنانية من حكر المزاحمة الأجنبية.

ثامناً- الدعوة لتأليف اتحاد للنقابات، يضم جميع المزارعين على اختلاف أنواع إنتاجهم دعماً لمطاليبهم.

تاسعاً- الدعوة لاجتماعات شعبية، تشرح فيها قضايا الزيتون والزيت والحمضيات والشمندر وسواها تعميماً للوعي الاجتماعي اللبناني.

عاشراً- شجب مشاريع الاحتكار والاستثمار الجديد الاقتصادي في البلاد وفي رأسها مشروع ضمان الرساميل الأميركية. وكان يجدر أن تضمن الولايات المتحدة استيراد إنتاجنا الزراعي والصناعي إليها.

الحادي عشر- تأييد الشعوب المناضلة لأجل حرياتها واستقلالها الخارجي، لا ينفصل إحداهما عن الآخر وقضيته لا تتجزأ.

– تصميم وعزم وشعور بالمسؤولية
بمثل هذا التصميم وهذا العزم والمطالب سنسير، يحدونا الشعور بمسؤولياتنا الجسيمة الملقاة على عاتقنا جميعاً في هذه المرحلة الاجتماعية الصعبة التي يواجهها لبنان.

– لبنان شعب منتج والإنتاج هو الأساس
ونحن على يقين أن هذه الاجتماعات الشعبية التي سيقام مثيلها في جميع مناطق لبنان، ستسهم في توعية الشعب إلى مصالحه الأساسية وستقوي ثقته بنفسه وستمكنه من فرض الحلول الإيجابية التي يراها لخيره ولصالح ازدهار بلاده، شعارنا: لبنان شعب منتج… والإنتاج هو أساس القوة الاقتصادية وهو الركيزة الأولى للعمل والعيش في البلاد ولازدهار الحضارة.

عاش لبنان بمزارعيه وفلاّحيه ومنتجيه وعماله والوطنيين المخلصين إلى أي فئة اجتماعية انتسبوا.

—————–

(*) المصدر: كمال جنبلاط، “حلول تزيل هموم الشعب وتزرع الأمل”، الدار التقدمية، 2016