المختارة ذات ليلة بيضاء

د. قصي الحسين (النهار)

منذ 6 كانون الأول 1917 يوم ميلاد المعلم كمال جنبلاط، والمختارة تستعيد ذكرى ليلة بيضاء لا تنساها. ويستعيدها معها لبنان والحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، والمناضلون والمجاهدون العرب والمسلمون، والأمميون والاشتراكيون ومنابر جبهات الدفاع عن القضايا الإنسانية وعدم الانحياز والتمييز العنصري، وجبهات التحرر الوطني والقومي والعمالي.
ليلة بيضاء أضاءت المختارة، فتضوأت لها قرى وبلدات الجبل الجنوبي وقرى وبلدات الجبل الشمالي، وأضاء الساحل قناديله في العواصم: بيروت وطرابلس وجبيل والبترون، وصيدا وصور. وأضاء البقاعان الشمالي والجنوبي شعلة الليطاني والبردوني فتضوأت زحلة وراشيا وتوضأ الناس وبزغ فجر الربيع ولملم ليل الظلم والاستعمار والاقطاع أنفاسه وبدأ بسحب أذياله عن وجه لبنان والهلال العربي.
كان ثمة نور أبيض قد انبلج هاتيك الليلة بين جدران قصر المختارة. كان ذاك النور الأبيض قد بدأ يأخذ اسماً واضحاً ذا هيبة ومكانة: كمال جنبلاط. لكنه اليوم في الذكرى التجديدية الثامنة والتسعين، لم يكن هنا بفضل هيبته ومكانته، بل تحديداً لأن كمال جنبلاط شهيداً أسس للربيع العربي وهو غائب عنه، بل غائب عن بيروت ودمشق والقاهرة والقدس والجزائر وتونس وموسكو وكوبا والهند، يتجول كما أراه، بين غزة ورام الله وبين درعا والقنيطرة وادلب وحمص وأحياء الغوطة ودوما وشوارع المدينة القديمة في حلب وأحياء السويداء وقلب لوزة وجبل التركمان وريف اللاذقية وحماه ومعرة النعمان وجسر الشغور ورأس البسيط والبو كمال ولواء الاسكندرون، وأراه بين زعماء العالم العربي والاسلامي، وزعماء الاشتراكية الدولية والعالم الثالث والعالم الغربي، وزعماء باندونغ ودول عدم الانحياز. وزعماء وقادة الاتحاد السوفياتي العظيم وكوريا والصين وفيتنام ومنظمة التحرير الفلسطينية وقادة الفصائل والأحزاب اللبنانية والفلسطينية.
هؤلاء جميعاً، لم يعتادوا أبداً إلاّ أن يكون كمال جنبلاط بينهم، غير أن الأهم من ذلك كله أن شبح ذلك الإنسان النوراني التقدمي الاشتراكي والإنساني والأممي والمقاوم والمجاهد، لا يزال حاضراً بدلاً منه. وهو في كل أزمة من الأزمات اللبنانية والعربية والإسلامية ترى اسمه يتردد على كل الألسنة، وفي كل الأسئلة، تحديداً لأنه كان يجترح الحلول للسير في المنعطفات وعلى شفير الأزمات والمهاوي، كأنه كان يعشق السير على الشفير، ولا يتهيّب دروب الآلام، وهو الذي ضرّج منعطفاتها الخطيرة بدمه، فأزهرت ربيعاً وعوسجاً وأقحواناً وأكاليل وتيجاناً من الشوك.
ولأن ذكرى ميلاد كمال جنبلاط اليوم إنما تذكر الزعيمين: وليد جنبلاط وتيمور جنبلاط بإعادة شبح الضوء الأبيض إلى جدران قصر المختارة واستعادة دور المختارة ذات ليلة بيضاء، دافعة إلى النسيان كل الأحقاد وكل الضغائن وكل الثارات، ولأن في ذكرى ميلاد كمال جنبلاط يكتشف لبنان في أزمة الرئاسة وفي أزمات الحكومة وجلسات البرلمان، تلك الأزمات البائسة والكئيبة التي مرت على بلاد الأرز من جبل الباروك إلى أرز اهمج وتنورين وبشري واهدن والقموعة، فإن واحدة من تلك الأزمات التي يسير فيها وليد جنبلاط عنيت أزمة الرئاسة عام 2015 إنما يحضر فيها شبح الضوء الأبيض الذي ضوّء أرجاء قصر المختارة عام 1970.
فهل نرى المختارة: وليد جنبلاط وتيمور جنبلاط ذات ليلة بيضاء في ذكرى ميلاد كمال جنبلاط الثامنة والتسعين.
ربما يكون المعلم حاضراً كل يوم وكل ساعة، على غير عادته. وبالتحديد لكونه رجل الأزمات، كما كان يعرف عنه. فحضوره الطاغي وقدرته على بث طاقة ايجابية من حوله، تمكن من يعوض بعض الشيء عن الكبار، أمثال وليد جنبلاط وتيمور جنبلاط، صورة، أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها جديدة ومفاجئة لشبح المختارة ذات ليلة بيضاء.

أستاذ في الجامعة اللبنانية