محطات في ذاكرة وطن

رشيد درباس (النهار)

هنا نص الكلمة التي القاها الوزير رشيد درباس يوم 21 تموز الجاري في قاعة قصر الاونيسكو في ندوة لمناسبة صدور كتاب: “محطات في ذاكرة وطن – مذكرات العميد عصام ابو زكي”.

في العام 1973، بينما كنت عائداً الى مكتبي في شارع خلفي من منطقة التل في مدينة طرابلس، مرت تظاهرة متوسطة الحجم. تهتف للمقاومة الفلسطينية وتندد بأنظمة التسوية والتخاذل والمساومة العربية من غير ان تغفل حتماً توجيه التقريع الى النظام اللبناني الجائر والمتواطىء والخادم لمصالح الطغمة المالية، وما زلت اذكر الهتاف يومذاك: “شوف… بص… 12 لص… و99 حرامي…”.
في ركن من الساحة كان يقف ضابط من قوى الامن على كل من كتفيه ثلاث نجوم، أعزل من اي مرافقة، يراقب دون تدخل. فعلمت فوراً انه النقيب عصام ابو زكي قائد المدينة الجديد الذي حل محل النقيب اسعد ضاهر، بعدما نقل الاخير من منصبه بسبب الأحداث التي حصلت في ملعب طرابلس البلدي، اثر مباراة في كرة القدم بين النجمة والسلام جرى فيها اجتياح المستطيل الاخضر، وحصل اطلاق نار وقع ضحيته احد المشجعين الزغرتاويين. فنقل المرحوم اسعد مع مساعديه بشكل عقابي.
وظننَّا اولا في طرابلس ان القائد الجديد من الموالين للرئيس فرنجيه، في وقت كان التحسس قد بدأ يزداد فيه بين زغرتا وطرابلس. لكن المرحوم امين الحلبي (ابو نظام)، وهو مواطن شوفي سلخ معظم عمره في ميناء طرابلس دركياً في بلديتها حتى اصبح واحداً من اهلها، أبلغني ان قائد المدينة الجديد هو ابن العقيد انيس ابو زكي ومن اقرب المقربين الى الزعيم كمال جنبلاط، فأفرح روعنا.
بعد وقت قصير من توليه، ثبت انه لم يكن يتصرف حيال الاحداث والقوى السياسية بما ينم عن ميل وهوى، فحلَّ عليه لقب “معاوية” بن ابي زكي لشدة دهائه وحنكته. وعُقِدَت صداقة عميقة ومتينة بينه وبين مجموعة ما زالت على عهدها بالوفاء، منهم القضاة مراد عازوري وبدري طالب وجورج عتيق ومنيف حمدان وجهاد الوادي وميشال ابو عراج وعصام ابو علوان والمرحوم الياس عساف، والمحامون محمود طبو وجورج شقير وأنا الماثل امامكم. ورغم ان التباين السياسي بين افراد هذه المجموعة كان واسعاً، فان صدر تلك الحقبة كان يتسع لمثل هذا، قبل ان يصبح المِدفع سيد الموقف وتمتلىء ارجاء الوطن بأزيز الرصاص والخطف على الهوية والتطهير الطائفي. وما زال يحز في نفسي الى الآن، انني وقفت يوماً ما مع عصام ومحمود طبو وعبدالله الشهال لنشرف سوية على نقل متاع زميلنا الطرابلسي جورج شقير الى مقره الحالي في ادونيس، وهو الذي كان بطلاً من ابطال كرة السلة وناشطاً اجتماعياً في نادي الشبيبة الكاثوليكية، وشريكاً لي في مكتب المحاماة.
ومن الطريف ان اذكر في هذا السياق ان منزل جورج كان مواجهاً لمنزل المرحوم توفيق التوتنجي احد افراد قوى الأمن. فما ان اطل النقيب عصام من شرفة منزل جورج، حتى هتف السيد توفيق مهللاً لرؤيته، ومصراً عليه ان يكرمه بزيارته، فذهبت معه وتعرفنا هناك على ابنه وليد توفيق الذي كان اسمه قد بدأ يسطع في عالم الفن. وكان ان اتفق عصام معه على إحياء عرسه من السيدة مي.
ومن الطريف ايضاً ان السيدة مي سألت زوجها يوماً عني: “من يكون هذا الشاب الدرزي”؟ إذ استنتجت ذلك من شدة حماستي للمعلم الشهيد كمال جنبلاط.
لم تطل كثيراً تلك الايام الجميلة. فالإرباكات الامنية راحت تأخذ حيّزاً اكبر في المدينة ايذاناً بالحرب الاهلية. وبدأت دولة المطلوبين تتشكل في اسواق طرابلس الداخلية، ومعظم قادتها كانوا من الفارين من السجن او من الملاحقين قضائياً. وبقيت الى فترة كانت كافية لزعزعة هيبة الدولة، حتى اقتحمها عصام مع نخبة راقية من ضباطه اذكر منهم المرحومين سمير ابو جودة، وناجي الهادي، والاصدقاء الاعزاء مروان زين، بردليان طربيه، جان نصرالله، فايز رحال، سليمان صليبا، امين صليبا، وكان قائد السرية في ذلك الزمان الرائد جورج اسمر الذي اصبح زميلاً لنا بعد تقاعده، وكان يتمتع بحس فكاهي وطرافة لطيفة. وكان يتولى الشرطة القضائية الصديق بدري الغزال.
بعد حين، أُعلنت ثورة تشرين من القلعة، وقام النقيب عصام باعتقال المرحوم فاروق المقدم، ثم سرعان ما افرج عنه بعد ان احتدمت طرابلس الى درجة الغليان.
أما الحدث الجلل فكان الرحيل المفجع لرجل من انبل من عرفت من رجال الدولة، عنيت الشهيد المغدور المظلوم الشيخ قاسم العماد، محافظ الشمال الذي لم تربطه بالقوى السياسية او بالمواطنين الا المودة. فتلقينا وتلقى معنا النقيب عصام رسالة اغتياله، وهي ان الفوضى وانحلال الدولة سيبدآن من طرابلس، ولم يكن المرء يحتاج الى قدر كبير من التبصر ليعلم ان الرجل الثاني المرشح للاغتيال، هو عصام نفسه، لأنه كان يمثل آخر رمز للدولة المتهالكة. بعدما آلت الأمور الى الميليشيات بما انطوت عليه من اخلاق رفيعة واحترام للمواطنين ونزاهة في التصرف، وتنسيق بين الفصائل. بحيث إني في كل مرة تعود بي الذاكرة الى ذلك العهد استغرب كيف بقيت مع امثالي على قيد الحياة.
غادرَنا عصام ولم نغادر محبته، وبقينا على اتصال رغم اتساع الهوة الجغرافية. ثم عاد الينا بعد ذلك بمدة طويلة، متقمصاً لبوس فارس من فرسان الجيش هو الصديق اللواء فادي ابو شقرا، صهره وصديقه، وعنوان النبل والرجولة واللطف. وكنا نشهد وده كذلك في عيني السيدة ليلى.
نجوم الكتفين اصبحت سيفاً وغمداً ومياه كثيرة جرت، لكن مجرى العلاقة لم يتبدل، بدليل اختياره لي لأكون متحدثاً في احتفال التوقيع. وما كان ليفعل غير ذلك لو لم اكن وزيراً، فأنا لست هنا بهذه الصفة العارضة الطارئة، بل اتلو عليكم هذه الاسطر بصفتي الدائمة، صفة الصديق القديم لعصام وعائلته العزيزة على قلبي، معترفاً بجميله، كمواطن طرابلسي وكشخص استنقذ حق ابني توفيق في تقديم امتحان الدخول الى كلية الهندسة في الجامعة الاميركية، عام 1990، عندما جرى اجتياح المقاعد فلم يتيسر له الدخول، فقام بما لم يقله لي – وقد عرفت ذلك ولا أسمح لنفسي الآن بذكره – حتى وفَّر له ان يقدم الامتحان. ولا أنسى كيف قرع باب منزل الصديق توفيق سلطان في السادسة من ذات صباح، طالباً إليّ والى ولدي توفيق ان نرافقه الى مبنى الجامعة.
هذه المنصة تتسع لدقائق قليلة، وذكرياتي معه تفيض عن المنصات والساعات. اما كتابه ففيه فصول من هذه الذكريات، وفيه أسرار وتاريخ، لكنه في حقيقته مضافة رحبة، كل حرف منها أريكة وثيرة لمتأمل او باحث عن معلومة تفضي الى عبرة.
الفصل الطرابلسي تحدثت عنه قبل أن أقرأه، فلما قلَّبت صفحاته وجدتني في صميم ذلك الزمان. اما بقية الفصول ففيها من الطرائف واللطائف والعواطف، ومن أسلوب عصام ابو زكي، ما يجعل الحديث عنها مفسدة لقراءتها. إذ الأشياء من منابعها تؤخذ. لكن، دفعتني الى القهقهة ملاحظات مرت سطورها تحت ناظريّ، كادت الأحرف فيها ان تكون لسانه وحنجرته وغمزة عينه وخلجة خده وهدوءه الذي يخفي توهجاً مشتعلاً. منها أنه سأل مرة رئيس مخفر إهدن عن أخطر المطلوبين، فأجابه “بدوي فرنجيه” فسأله عن مكان وجوده فقال: “في المنزل المقابل للمخفر وغالباً ما يضع مفتاح البيت عندنا لتأخذه أمه حين تريد”. فلنا الله حين يصبح المخفر ناطور المفاتيح.
ومن المضحك الى المفجع المبكي، عندما ساق عصاماً طالعُه الى ان يكون اول من رأى المعلم الكبير شهيد الوطن والعروبة مجندلاً في سيارته والدم ينزف على ربطة عنقه. فإذا به، وقد تفلت الجمع من عقاله، اجتاحته في لحظة واحدة مشاعر الهول والمسؤولية والحس الوطني، فراح يسعى الى حفظ ادلة الجريمة وتلافي الاصطدام بالجيش السوري ومنع الهيجان الطائفي والى حماية شاهد مهم كاد يفتك به الجمع في ضاحية طبيعية لذهوب العقل وانفلات الغرائز.
قال سيبويه: أموت وفي نفسي شيء من حتى.
وأظن عصاماً سيظل، الى عمر طويل بإذن الله، يشعر بتقصير ما لأنه لم يستطع ان يدلي للمستقبل بكل ما فعل الماضي.

———————–

(*) وزير الشؤون الاجتماعية