ما أحوجنا الى فكر كمال جنبلاط

آديم بوميدين (الأنباء)

أكاد أحسُّ بأن طيفَ الشهيد كمال جنبلاط هو فوق هذه القاعة، ينظر إلينا ويحاول أن ينقلنا من جغرافيا الثلج الذي لا يكاد يذوبُ حتى يتجدد، إلى جغرافيا الألم الذي لا يكاد يزول حتى يتجدد هو أيضا. ومع ذلك، فلا أشعر أنه يريد أن يذرف دمعةً فوق رؤوسنا، وإنما يريد أن يصرخ في آذاننا لنصحو ونتدارك أخطاءنا وندافع عما استشهد من أجله، ليرتاح قلبُه أخيرا حيث هو في السماء.

رغم أني لم أعش في زمن المناضل والمفكر الكبير كمال جنبلاط، إلا أنني أعرف تماماً ما يعنيه هذا الاسمُ الكبير بالنسبة لأمتنا العربية. لقد كان أوَّلُ معرفتي بهذه الشخصيةِ العربية الكبيرة والنبيلة، من خلال صورةٍ عزيزةٍ عليَّ جمعت بينه وبين جَدِّي لأمي إبراهيم أبو ستة، الذي كان عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في ستينات القرن الماضي. ثم قرأتُ وسمعتُ الكثيرَ عنه مما تطيب به النفْسُ، من مسيرةٍ نضاليةٍ وفكرية حافلة، دفاعاً عن قضايا أمتنا العربية، مسيرةٍ زاخرةٍ بالعطاء والتنوير. وإنه لما يُوجع القلبَ أن تكون تلك المسيرة قد انتهت معمَّدةً بالدم، حيث ارتقى كمال جنبلاط الى بارئه شهيداً قبل أن يرى جهوده ونضاله وفِكْره يثمر وحدةً عربيةً ومجداً جديداً لهذه الأمَّة – مثلما كان يحلم ويطمح.

ما أصدقَ قولَ الشاعر في ذلك الموقف الجلَل:

كأنـَّما جبلُ الباروكِ أذهَلَهُ أن تنحني، فمشى في يومِكَ الشجرُ

والأرْزُ أفلتَ من حُرّاسِهِ ومشى،

وفي ثناياهُ من جرحِ الردى خدرُ

كأنما أمّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ،

وأنتَ وحدَك في صحرائها المطَرُ

في السادس عشر من آذار عام 1977 استشهد السياسي والأديب والمفكر والزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط. فزُلزلت الأرض اللبنانية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، مروراً بالجبل ووصولاً إلى البقاع. وسُمِعَ صدى سقوطِ تلك الأرزةِ الشامخةِ في كل أرض العرب، وفي عواصمَ عالمية، حزناً وغضباً  على هدا الرمز العربي الأبي.

إن كمال جنبلاط، الذي عاش مناضلاً من أجل بلده لبنان، نذر حياتَه أيضا من أجل أُمَّتِه العربية، فلم يفصل قضية لبنان عن محيطه القومي يوماً. لقد كان من أبرز صانعي تاريخ لبنان الحديث، مثلما كان صاحبَ غَيْرَةٍ ومواقفِ عزٍّ وإباءٍ حَيالَ الوجع القومي، خاصة في فلسطين.

ليس من المبالغة القولُ إن كمال جنبلاط كان ظاهرةً قوميةً لا تصطدم مع الآخر في موازين الحق والعدل والمساواة، كان قومياً وأممياً بامتياز. ففي موازين الخير هذه، تتجلّى الإنسانية الحقَّةُ عندما تلفظ النفْسُ البشريةُ شرورَها.

وانطلاقاً من هذه الفلسفة، أسس ورفاقه في الاربعينيات من القرن الماضي حزباً اشتراكياً همُّه الأول تحرير الفلاحين والعمال من بطش الإقطاع والطغيان، وكان نصيراً ورفيقاً لهم، مهتماً بقضاياهم، ومؤمناً كل الايمان أن الإنسان أكبرُ وأغلى رأسمال في العالم.

كذلك، فلم تتناقض قوميته واشتراكيته مع إيمانه باستقلال لبنان ودورِهِ الريادي في القضايا العربية، وأهمها القضية الفلسطينية التي ناضل جنبلاط من أجلها. فكان مؤمناً بضرورة تحرير فلسطين، ليس فقط لكونها قضية العرب الأولى، ولكن باعتبارها أيضا قضية إنسان وقضية حق وعدالة. ولهذا، فقد كان جنبلاط هو أول من شرَّع العمل الفدائي من داخل لبنان في اتفاق القاهرة عام 1969.

وعلى الصعيد العالمي، شكل جنبلاط، مع الزعيم الهندي  جواهر لال نهرو والزعيم اليوغسلافي جوزف تيتو والرئيس المصري جمال عبد الناصر وغيرهم، ركناً من أركان الفكر الذي عجل بانطلاق حركات التحرر الوطني في القارتين الأفريقية والآسيوية، فكان زعيماً يتخطى دورَ الزعامة التقليدية في لبنان ليصبح أحد الشخصيات العالمية البارزة، مؤكِّداً بذلك الصورةَ الإيجابية عن بلده لبنان من حيث أنه – رغم صِغَرِ حجمِه – هو بلدٌ استثنائيٌّ بعطاءاته الفكرية والثقافية الإنسانية التي أنجزها ابناؤه من جيل النهضة الاوائل، أمثال المبدعين الكبار أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وكثيرون غيرهم.

ان كمال جنبلاط، إسم كبيرٌ جليلٌ يعصى على النسيان. عاش مناضلاً، مفكِّراً، وشيخاً حكيماً متزهداً، ومات مؤمناً متنسكاً ومسطراً بمعمودية الدم تاريخاً وكفاحاً وفِكراً قلَّ نظيرُه. وقد ترك بغيابه إرثاً فلسفياً ونضالياً وأدبياً قيِّماً، ومبادىء وقِيَم وطنيةً راسخةً يسير عليها رفاقُه ومحبوه في كل اصقاع الارض.

ما أحوجنا إلى الصرخة التي تطلقها روحُ المعلم كمال جنبلاط، صرخةٌ هي نداءٌ لأمَّتنا لكي تصحوَ من غفوتها، وتنهضَ من كبْوتِها، وتَجْمعَ شتاتَها على كلمةٍ سَواءٍ في وقتنا هذا، حيث تعددت الهوياتُ والمذاهب، وسادت لغةُ التكفيرِ والتخوين، وغدت الفُرقةُ والتناحرُ والوَهَنُ تنخر جسدَ أُمَّتِنا العربية، وهو ما لا يستفيد منه إلا أعداؤنا… و ما أكثرهم!

نعم، ما أحوجَنا إلى فكر كمال جنبلاط في هذا الزمن، حيث تاهت بوصلتنا فما عادت تؤشر إلى فلسطين، ولا إلى مصلحة أمتنا الحقيقية وغدِها الأفضل، زمنٍ كثر فيه الدخلاء على تاريخنا وميراثتا الثقافي، وساد فيه القتل باسم الدين أو الطائفة أو المذهب، زمن ظهر فيه من بين ظهرانينا من يكره تاريخَنا وثقافتَنا فيحطِّمُ حتى آثارَنا العريقةَ بفأس الجهل والحقد والعداء. لكننا بعون الله لن نستسلم لهؤلاء السوداويين والإرهابيين والظلاميين ومن يدعمهم،  ولن نسمح لهم بأن يقتلوا كلَّ جميل زرعه فينا كمال جنبلاط وأمثالُه من خيِّري أمتنا الذين آمنوا بمجدنا ودورنا الحضاري والإنساني. وسنثبُتُ على مبادئنا ونواصل طريقنا، ولن نفقد الأمل.

في بلدي فلسطين، هناك مظاهرُ تكريمٍ رمزيٍّ للشهيد جنبلاط تتمثل في حَمْلِ عددٍ من المدارس والشوارع لاسمه، إلا أن الأهم من ذلك هم أن اسم كمال جنبلاط حيٌّ في قلوب أهل فلسطين، بل وفي قلوب العربِ الطامحين الى الأفضل.

فمن فلسطين المناضلة الصابرة، من غزة الصامدة المكلومة بحصار العدو والصديق، من القدس المنكوبة بالصمت العربي والاستيطان الصهيوني، من الكرمل الشامخ، من ناصرة البشارة، من بيت لحم وكنيسة مهدها، من كل أبناء فلسطين في الوطن والشتات، لكم أيها الجَمْعُ الكريمُ تحيه محبةٍ وتقدير، وللمعلم كمال جنبلاط منا جميعا تحيةُ حبٍّ وإجلالٍ ووفاء، نرفعها إلى روحِهِ الأبيَّةِ في السماء، مقرونةً بالعهد بأن نبقى سائرين على خطاه حتى تتحقق آمالُنا بتوحيد أمتنا وتحرير فلسطيننا و بناء مستقبل مشرق وآمن لأجيالنا القادمة.

——————————

(*) صحافية فلسطينية

(**) ألقيت في الحفل الذي أقامته الجمعية اللبنانية الكندية التقدمية في تورنتو (كندا) إحياءً  لذكرى السادس عشر من آذار.