فلسطين وجرائم اسرائيل والمحكمة الجنائية الدولية

د.ناصر زيدان

فشِلت حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعها المجموعة العربية في الامم المتحدة، في اصدار قرارعن مجلس الامن الدولي في آخر يوم من العام الماضي، يقضي بانسحاب قوات الاحتلال “الاسرائيلي” من الاراضي العربية المحتلة قبل نهاية العام 2017، بسبب استخدام الولايات المتحدة الاميركية كامل نفوذها بمواجهة القرار.

فور ذلك، لجأت السلطة الفلسطينية – وبصفتها دولة تتمتع بالعضوية المراقبة في الامم المتحدة – الى تقديم طلب الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. والمحكمة بدأت العمل في العام 2006 بموجب اتفاقية دولية اقرَّها المجتمع الدولي في العام 1998 في ايطاليا، وعرفت بـ “بنظام روما”. لا تقبل المعاهدة في عضويتها إلاَّ الدول العضوة في الامم المُتحدة.

اهمية انضمام السلطة الفلسطينية الى عضوية محكمة الجنايات الدولية الدائمة، تبرز من خلال مجموعة من العوامل التي تُعطي قوة للموقف الفلسطيني، وتُحرج موقف العدو “الاسرائيلي” الغاصب، وتُضعفه امام المجتمع الدولي، كما وتُربك افراد جيشه المُحتل، من ضباط وافراد، لأن مُساءلتهم عن ارتكاباتهم الاجرامية بحق الشعب الفلسطيني اصبحت مُتاحة امام القضاء الجنائي الدولي. هذا القضاء الذي افلح في سوق مُجرمي الحرب في سيراليون ويوغسلافيا السابقة وليبيا ورواندا، لم يلاحق قط المجرمين “الاسرائيليين” رغم ان ارتكاباتهم لا تقلُّ وحشيةً عن ارتكابات مسؤولي هذه الدول، اذا لم تكُن اشدُّ فظاعةً.
لماذا لم يلاحق القضاء الجنائي الدولي مجرمي الحرب ” الاسرائيليين “؟ وما الذي سيتغير بعد انظمام فلسطين لعضوية المحكمة؟

المادة 13 من نظام محكمة لاهاي، او ما يُطلق عليه “نظام روما” تُحدِّد آلية تحريك الدعوى امام المحكمة، وتحصرها بثلاثة طُرُق: اما من خلال احالة مجلس الامن الدولي بموجب الفصل السابع – كما حصل في يوغسلافيا السابقة وفي دارفور في السودان وفي ليبيا مؤخراً – واما من خلال دعوى تتقدَّم بها دولة عضوة في نظام المحكمة عن جرائم ارتُكِبت على اراضيها، واما من خلال تحريك المُدعي العام في المحكمة لدعوى بناءً على معلومات حصل عليها من مصادر مختلفة. الاعتداءات “الاسرائيلية” الاجرامية لم يُحيلها مجلس الامن الى المحكمة لأسباب معروفة، خصوصاً بسبب الانحياز الاميركي الى جانب “اسرائيل” والمُدعي العام لم يُحرك اي ساكن ضد قادة الجيش “الاسرائيلي” على ارتكاباتهم في غزة والضفة وجنوب لبنان.

ABASS-PALASTINE

المُتغيِّر الاساسي بعد انضمام السلطة الفلسطينية الى المحكمة الجنائية الدولية انه اصبح بإمكان الحكومة الفلسطينية تقديم دعوى ضد الارتكابات “الاسرائيلية” امام المحكمة، وبالتالي يُصبح جائزاً ملاحقة العسكريين “الاسرائيليين” وقياداتهم بشكل شخصي امام القضاء الجنائي الدولي الذي لا يُراعي ابداً الحصانة الوطنية التي تفرضها القوانين المحلية على المسؤولين والرؤوساء، وعلى القيادات العسكرية في الجيوش وقوات الامن الداخلي.

والمسؤولية الجزائية امام القضاء الدولي تقع على الافراد مباشرةً، والدول تتحمل مسؤولية مدنية فقط عن افعال مسؤوليها وفقاً لما تنصُّ عليه المادة 3 من اتفاقية لاهاي الرابعة للعام 1907 التي ما زالت نافذة. والمادة الخامسة من اتفاقية روما للعام 1998 التي أُنشئت بموجبها محكمة لاهاي، تنصُّ على اختصاص المحكمة في معاقبة مُرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة التي تُشكلُ نوعاً من انواع التهديد للسلم العالمي، وهي: جرائم الحرب، لا سيما احتلال اراضي الغير، واستخدام الاسلحة المحرَّمة، وجرائم الابادة الجماعية، وهو ما تفعله “اسرائيل” بحق مجموعات واسعة من الشعب الفلسطيني، والجرائم ضد الانسانية، لا سيما التي لا تُراعي الخصوصية البشرية، والتي تطال العُزَّل والاطفال والنساء، واخيراً فإن اختصاص المحكمة يشملُ ايضاً محاكمة مرتكبي جرائم العدوان – التي لم يتم الاتفاق على تحديدها حتى الآن – ولكن بطبيعة الحال فإن العدوان “الاسرائيلي” على الشعب الفلسطيني قائم، وموثَّق، على اعتبار انه شعب اعزل من السلاح، وجيش الاحتلال مُدجَّج بأحدث الاسلحة.

الادارة الاميركية احتجَّت على طلب الانظمام الفلسطيني للمحكمة، وهددت بقطع المعونات عن الشعب الفلسطيني، والحكومة “الاسرائيلية” امتعضت من الاجراء الفلسطيني ايضاً، واوقفت تسليم السلطة الفلسطينية مئات ملايين الدولارات الاميركية التي تُجبيها كعائدات جمركية من الواردات الفلسطينية عبر موانئها، وهدد رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو بإعداد ملفات جنائية ضد القيادات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة وفي الشتات.

هذا الاضطراب “الاسرائيلي” الذي احدثتهُ الخطوة الفلسطينية المُتقدِّمة، يؤكد بما لا يرقى اليه اي شك؛ بأن قوات الاحتلال “الاسرائيلي” ترتكب جرائم واضحة ضد الشعب الفلسطيني، وتنطبق قوانين المُساءلة الجنائية الدولية على افعالها الشنيعة.

امَّا الادارة الاميركية فقد اكدت من خلال موقفها المؤيد لسلطات الاحتلال “الاسرائيلي” الانحياز الى جانب المُعتدين، وضربت بعرض الحائط قواعد القانون الدولي، لاسيما القانون الدولي الانساني الذي يحمي المدنيين اثناء فترة الحروب، والواقعين تحت الاحتلال. وهي بهذا الموقف التهديدي الذي اعلنته ضد السلطة الفلسطينية، تُشجع العدوان، وتحمي المُجرمين، وتُساهم في احلال الفوضى مكان الانتظام الدولي العام.

في 2015/1/16 فتح المدعي العام في المحكمة تحقيقاً اولياً بالمعلومات التي قدمتها السلطة الفلسطينية عن الارتكابات الاسرائيلية منذ صيف 2014. قامت قيامة حكومة الاحتلال في وجه المحكمة، ووصف وزير خارجية العدو الاسرائيلي افيغدور ليبرمان القرار “بالمسخ” وهدفه تقويض حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها كما قال. بينما لاقت واشنطن الاعتراض الاسرائيلي في مُنتصف الطريق، وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الاميركية جيف رانكي انها تعارض قرار المحكمة، ولا تعترف بفلسطين دولة مُستقلة. والجدير بالذكر ان واشنطن علَّقت عضويتها في المحكمة منذ العام 2006 بعد ان كانت صادقت على اعلان روما، وهي الآن خارج الانتظام القانوني الجنائي الدولي، وترفض احالة ارتكابات جنودها امام المحاكم الدولية.