الشهامة العربية وزمن الانحطاط

د.ناصر زيدان

اكثر ما تتميز به العروبة كمقاربةٍ حضارية، التقاليد الاصيلة التي تنمُّ عن شهامة تعطي القيّم المعنوية اولويةً على ما عداها من اعتبارات، ذلك ان ما يُميز العربي انه يحمل رسالة. والرسالةُ هذه لا ترتكز على الطموح الى تحصيل المزيد من الثروةِ والجاه، او تعزيز الهيمنة والنفوذ، بل على العكس، غالباً ما كانت الطموحات العربية، الصادرة عن افرادٍ او عن قيادات، او جماعات، تحمل عناوين معنوية، وتربوا الى تحقيق اهداف فيها خير للبشرية ومصلحة مُشتركة للجماعة.

والشهامةُ العربية سمةٌ راقية، تستند الى مفاهيم الرحمة والامانة والصدق والتقوى، وتحترم رفعة الاخلاق، وتعتمد النبالة في المُداخلة مع الآخرين، لاسيما اذا كان هؤلاء من المِللِ المختلفة الأُخرى. وقد كان للشهامة العربية بصمات بيضاء في تاريخ الانسانية، وحفِلت الحياة البشرية بمآثِر تتغنَّى بما يعتمده العرب في ممارساتهم لأعمالهم المختلفة، في السياسة وفي التجارة وفي الطب وفي الصناعة والزراعة، وفي تقاليد حسن الضيافة، ومساعدة المُحتاج، وايواء الملهوف.

والكرمُ العربي، بما يعنيه من تقديم الطعام والشراب للضيف، او للمحتاجين والفقراء، يكاد يُغطي على المكارم الأُخرى، نظراً لما كان لهذا الكرم من اهمية ترمُز الى رفعة المكانة والى وساعة الاعتبار عند مُقدِّم المكرُمة. وقد حفِل الادب العربي بالحديث عن الكرم، وعن التضحية كعناوين ترمز الى رفعةِ الأمة.

امَّا العِفّة عند المقدِرة، والسلام، فكانا من الركائز الاساسية التي استندت اليهما الشهامةُ العربية، وكرسهما الاسلام الراقي المُنفتح كعناوين تتكرر مع كل تلاقٍ، وفي مندرجات الحياة اليومية بين افراد القبائل العربية، وبينهم وبين الشعوب الأُخرى على اتساع الكُرةِ الارضية قاطبةً. وقد اعتمدت التقاليد العربية في المُناداة الاولية عند التقاء الافراد، او الجماعات عبارة ” السلام عليكم ” لما لها من اهمية في بثِّ روح الاطمئنان بين الناس. وعند التفوُّه بهذا العبارة يلتزِمُ العربي بأدبيات الاحترام، وعدم فعل اي شيء يمكن ان يُفسِّر تهديداً للشخص الآخر، ولا غدراً بهِ، حتى لو كان هذا الشخص من صنف الاعداء.

وصدقُ اللسان سمةٌ عربيةٌ مُتجذِّرة، تحمل ضغينةً لكل اشكال الكذب والرياء، ولكل انواع الاحتيال والتلاعُب. وقول كلمة الحق في وجه سلطانٍ جائر ابرز دلائل الرجولة العربية، والرجل العربي الاصيل، لايتراجع عن التزاماته التي يتفوهُ بها، مهما كان ثمنها غالياً، ومهما تحمَّل من جرائها من اخطار.

وحفظ الاخوان تقليدٌ عربيٌ متوارث، وهو يعني بالدرجة الاولى تأمين سلامة باقي افراد الامة، او العشيرة، بما في ذلك توفير سُبل الاستقرار الامني والسلامة الجسدية لهم، وحفظ مصالحهم، وعدم الغدر بهم، او تسبيب الاذى لهم. ذلك واجبٌ عربيٌ مُلزِم، بصرف النظر عن التبايُن او الخلاف الذي يمكن ان يكون حاصلاً، او مُستجداً بين ابناء الامة، او بين افراد العشيرة.

اخطار مُتعددة تواجه تقاليد الشهامة العربية، وتحفلُ الصور القادمة الى مرائينَا من ساحاتٍ مُتعددة – آخرها من سوريةَ والعراق – بمشاهد تحملُ مخالفاتٍ جمَّة يرتكبها افرادٌ عرب – او مُسلمون – تُسيءُ الى التقاليد العربية، والى صورة الاسلام السمحاء، ومنها اعمالُ غدرٍ، وجرائم شنيعة لا تُقرُّها الانسانية، وتجويع للأطفال والنساء، وعمليات سلب ونهب، وتهديم لأضرحة رموزٍ دينية وفكرية، واستهدافٍ للتنوع الذي حفظته القيّم العربية على مدى اجيال، وضيقُ صدرٍ امام الافكار الأُخرى، وقلَّةُ احترام للديانات السماوية، وللجماعات المتنوعة التي ترعرعت في ظُلِّ العروبة والاسلام على مدى مئات السنيين .

ويتساءل المرأ: من اين جاءت هذه الوحشية الدخيلة التي لا تمتُّ الى العروبةِ بشيء؟ وكيف لها ان تتحدث بأسم الاسلام وهو الدين الحنيف الذي نبذَ الكراهيةَ، ودعى الى المساواة وإقامة العدل واحترام التنوع.

لعلَّ البلاء الاشد الذي اصاب العرب، كان في استقدام ثقافة الاستبداد الى واحة الامة، ذلك بعد ان لفظت انفاسها في بلاد المنشأ. والاستبداد جهلٌ، يتناقض مع التقاليد العربية التي تحترم الشورى، وتدعوا للجدال بالتي هي أحسن.

ان تعميم ثقافة القتل للتخلُّص من الآخر لا تمت الى العروبة بصلة. ويحملُها بعض الحكَّام في سبيل الحفاظ على السلطة، كما يُعممها الجاهلون لصناعة امجادٍ وهمية، تُسيء الى العروبة والاسلام، ولتحمي مشاريعاً مشبوهة تتناقض جوهرياً مع الفكرة العربية، وتستقدم مزيداً من التشوية لنقاوة الاسلام وتسامُحه وسماحتهِ، وهذه الثقافة تخدم اعداء الامة، وتقدِّم براهين تُبيِّضُ سجل المُستبدِّين والمُجرمين  الَّذين ارتكبوا المعاصي بحق شعوبهم، وابادوا عشرات الآلاف من الابرياء.

اين الشهامة العربية من ما يجري بين تعاريج السهوب والهضاب العربية في بلاد الرافدين وفي واحات بادية الشام ومُدنها.

الشهامةُ العربية صدقٌ وثقوةٌ وعفةٌ وعفوٌ عند المقدرة. امَّا القتل والتدمير والكذِبٌ والرياء، فهي مقارباتٌ غريبة لا تنمُّ الى الشهامة العربية بِصلة، وهي انحطاطٌ بكل المقاييس.